لاشك أن شيوخ جماعة الإخوان المسلمين الذين تجشموا مشقة الصعود الي المقطم ليلة الأحد الماضي لافتتاح أول مقر عام للجماعة منذ عام1954. قارنوا بين هذا المبني الحديث الذي يشغل ستة طوابق و تتقدمه حديقة مهندسة منمقة وبين ما كان من ذكريات مبني الحلمية الجديدة ذي الطابقين الإثنين, حيث كان يخطب الإمام حسن البنا في مريديه كل ثلاثاء. وبالنسبة للجغرافيا السياسية لمدينة بحجم وتاريخ القاهرة فإن مقر المقطم يبدو نائيا وبعيدا عن الكثافة السكانية و العمران والقلب النابض للعاصمة بالبشر والأحداث. أما المقر القديم فقد كان مشرفا علي زحام المدينة ومنخرطا في مجريات حياتها منذ إنتقال الجماعة إليه في عام.1943 وبعدما شغلت شقة تلو أخري منذ تأسيسها في الإسماعيلية عام.1928 و من يقصد المقر الجديد يحتاج الي سيارة خاصة أو تاكسي يمر بوسط المدينة المزدحم الي هضبة المقطم العليا. وتبعد خطوط المواصلات العامة مسافة تتطلب نحو ربع الساعة سيرا علي الأقدام. وفي كل ذلك ما قد يجعل من المقر الجديد قبلة غير شعبية و مشوارا مكلفا لأعضاء الجماعة و مريديها من غير مساتير الحال. و تشبه العمارة الخارجية للمبني الجديد العمارات السكنية للأثرياء الجدد التي تننتشر فوق هضبة المقطم وفي أحياء القاهرةالجديدة ك التجمع الخامس. و يغلب عليها المسحة الخليجية. وتزيد النوافذ محدودة المساحة المبني غموضا وجهامة, رغم لونه الوردي الفاتح. ولذا فإن صالة الإستقبال بالدور الأرضي تعتمد علي نظام كامل من التكييف المركزي إضافة الي الوحدات الإسبلت, مع أن الهواء العليل يجوب الأرجاء حول المبني. وهو بالأصل إستقبال يفتقد الي الرحابة. ولا يميزه عن مداخل المنازل المجاورة سوي صور فوتوغرافية للمرشدين السابقين للجماعة تزين أحد الجدران, ويتقدمهم المرشد الأول البنا يرتدي الطربوش التركي المألوف عند أفندية زمانه. سؤال لا يجوز! ويقول ل الأهرام المسائي محمد فريد عبد الخالق(95 عاما) عضو الهيئة التأسيسية للجماعة أن مقر الحلمية الجديدة كان قصرا الي جوار المدرسة الخديوية الثانوية و من السهل الوصول إليه. ويضيف: أشهر ماكان يميزه هو درس الثلاثاء الذي يلقيه الإمام البنا, حيث تتوافد مختلف طوائف الأمة لتملأ جنبات الميدان الذي يطل عليه القصر والشوارع المؤدية إليه ويتذكر عبد الخالق وربما يكون الآن أكبر الإخوان المؤسسين علي قيد الحياة ان مقر الحلمية كان قريبا أيضا من سكن البنا.أما المرشد السابق للجماعة مهدي عاكف فيروي ل الأهرام المسائي أن المقر القديم كان يضم في طابقه الأول مكتب المرشد و صالونا للإستقبال و سكرتارية, فضلا عن مكتب للإتصال بالعالم الإسلامي. ويتذكر أن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة أقام إقامة كاملة في هذا المبني خلال سنوات منفاه الإختياري. وتحديدا بين عامي46 و1947. وقبل أن يتولي مسئولية الحكم في بلاده عام.1957 وللمفارقة فإن بورقيبة أصبح بعدها من أبرز حكام جيل الإستقلال في عالمنا العربي الذي انتهج سياسات علمانية. وتتضارب إجابات قادة الجماعة الذين اتصلنا بهم بشأن طبيعة حيازة الإخوان للمركز العام الجديد وقيمة الشراء أو الإيجار. بل أن بعضهم إعتبر أن طرح السؤال أمر لا يجوز. وهكذا كأن الجماعة لم تتخلص بعد من ميراث السرية و المطاردة الأمنية, ورغم ما يحمله حدث افتتاح مقرها الجديد من إشارات علي العلانية والمناخ الديمقراطي بعد ثورة25 يناير. الا أن النائب الأول المهندس خيرت الشاطر قال ل الأهرام المسائي في النهاية بأن مبني المقطم إيجار في سبيله الي تمليك وأضاف قائلا: هناك دعوة لجمع تبرعات لتوفير ثمن الشراء. وعلما بأن قيمة المبني في تلك المنطقة تقدر بأسعار السوق بأرقام تتراوح بين السبعة والتسعة ملايين جنيها. وهي بالقطع أرخص كثيرا من أسعار المساحة ذاتها في حيمدينة نصر, والتي قد تقدر بأربعة أضعاف. مفاجأة نجل المرشد الأول و المفاجأة التي فجرها نجل مرشد الجماعة الأول أحمد سيف الإسلام البنا حين أتصلنا به أن الجماعة بسبيلها الي مخاطبة الحكومة المصرية لاسترداد مقرها القديم في الحلمية الجديدة وهو الآن قسم شرطة الدرب الأحمر. وآخر ذكرعن تاريخ هذا المبني مع الجماعة حين جري إحراقه فور إتهام أعضاء في الجهاز السري للإخوان بمحاولة إغتيال الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في المنشية بالأسكندرية أكتوبر1954. ومحاولة الإغتيال بالأصل قضية خلافية بين الروايات الرسمية و روايات الجماعة. ويوضح سيف الإسلام: بعد ثورة25 يناير تمكنت من إصدار شهادة عقارية تثبت ملكية والدي للمبني. ويضيف: قد نلجأ الي القضاء إذا امتنعت الحكومة عن الاستجابة. ويطرح مسألة مقرالحلمية في إطار سعي الجماعة لاسترداد ممتلكات جرت مصادرتها, و بينها قطعة أرض أمام المقر ذاته. وهو ملف ساخن مرشح للظهور أمام الرأي العام في الأيام المقبلة. وعلي أية حال, فإن سيف الإسلام يتذكر أن والده كان قد أشتري مقر الحلمية الجديدة( لقصر) بسعر8500 جنيه من تاجر رخام يدعي الطحاويوقد جري جمع المبلغ من تبرعات الإخوان خلال يوم واحد. وواقعة التبرع هذه يؤكدها الرعيل الأول من الإخوان الذين اتصلنا بهم, وإن إختلفوا حول سعر الشراء. الصور الفوتوغرافية لمقر الحلمية الجديدة وما شهده من أحداث علي مدي أيام مجده في عقد الأربعينيات نادرة بعض الشئ. و لشيخ المصورين المصريين رشاد القوصي(88 عاما) قصة مع تاريخ الإخوان ومقرهم القديم. فهو بالأصل من أبناء حي الحلمية الجديدة, وقدر روي لي خلال حوار صحفي في ديسمبر عام2006 أن جده الشيخ محمود القوصي رئيس المحكمة الشرعية كان علي صلة ب حسن البنا. وفي إحدي زيارته لمنزل الشيخ القوصي عرض البنا علي رشاد الشاب التصوير لصحف الجماعة, وذلك الي جانب استمراره في وظيفته آنذاك كمعلم. وهي بالمناسبة نفس مهنة مرشد الإخوان الأول وهكذا عمل القوصي لسنوات في عقد الأربعينيات مصورا لصحف جماعة الإخوان. وكان يتردد علي مقرها العام مع أنه لم يكن عضوا بها.لكن مشاهد درس الثلاثاء لحسن البنا وهو يلقيه في مريديه المتحلقين امام المقر بعد صلاة المغرب لاتزال محفورة في ذاكرته. ولقد أضطر رشاد القوصي عندما أغتيل حسن البنا في عام1949 الي إخفاء أرشيف صوره عن الجماعة. وقال لي نصا: أخذت كل الأفلام والصور التي تتعلق بحسن البنا وجماعة الإخوان وأخفيتها عند أحد أقاربي. ولم استردها الا بعد نحو ست سنوات.. كنت بالفعل خائفا. كما روي لي في حديث ذكريات تدفق أنه كان يقوم بتصوير إجتماعات ولقاءات البنا وقيادات الجماعة. وتذكر ضاحكا: كنت أجلس منتظرا تلقي التكليفات.. وعندما تقام الصلاة لا أصلي.. وسألني مرة البنا: لماذا لا تصلي؟, وأجبته: معلش أنا باصليها قضا.. وضحكنا. وعندما سألت القوصي عن إحساسه بالقيود الرقابية علي المصور الفوتوغرافي في صحف الإخوان حينها, فاجأني بقوله: أبدا.. حتي أنني نشرت في مجلة( الدعوة) صورا للمطربة نجاة الصغيرة وهي تغني في حفل وكانت طفلة آنذاك. ولعلها من أولي صورها في الصحافة. لكنني كنت أعمل في العادة مع محررين لديهم تكليفات بموضوعات معينة. شاهد علي إحراق المقر القديم نجل حسن البنا يؤكد أنه كان شاهدا علي إحراق مقر الحلمية الجديدة. ويتهم رجال هيئة التحرير التنظيم السياسي الأول لثورة يوليو. ويتحسر علي مكتبة تحوي مؤلفات ثمينة كان الأمير محمد علي قد أهداها للجماعة. لكنه لا يتذكر إذا ما كان رجال الهيئة أم مواطنون غاضبون قد مزقوا حينها خراطيم المطافئ لمنع إنقاذ المقر. ويقول في النهاية: لو إسترددنا هذا المقر و الأرض المطل عليها سيكون أيسر علي الناس الوصول إليه. و علي أية حال يبدو الرجل متفائلا لأن الجماعة استردت بعد ثورة25 يناير شقة بسوق التوفيقية بوسط القاهرة, وشرعت في إعدادها مقرا لموقعها الالكتروني إخوان أون لاين. وتعد شقة التوفيقية واحدة من المقرات غير الرسمية التي ظل الإخوان يتنقلون بينها في القاهرة, منذ أطلق الرئيس الأسبق أنور السادات سراحهم عام1974 وسمح لهم بقدر من النشاط الإعلامي والسياسي من دون منح الشرعية القانونية للجماعة. ولعل أشهر هذه المقرات غير الرسمية واحد في المنيل وآخر في شارع جسر السويس بحي مصر الجديدة. والأخير كان مقر الكتلة البرلمانية للإخوان في مجلس شعب(2005 2010) من حضر إحتفال إفتتاح المقر العام الجديد لجماعة الإخوان في موقعه البعيد النائي مقارنة بمقرها التاريخي القديم بإمكانه أن يلحظ علي واجهة المبني شعارها المتوارث من زمن مرشدها الأول المصحف والسيفان وكلمة وأعدوا..لكنه سيفتقد حتما كاريزما حسن البنا, الذي تردد اسمه كثيرا علي السنة المتحدثين في الإحتقال من مرشدها الحالي الدكتور محمد بديعالي الضيوف العرب الإخوان. وعندما كان يهم الحضور بالإنصراف ضحك شيخ عجوز مع شاب يصغره بأكثر من نصف قرن وهو يقول:خسارة فات أحمد عز وأصحابة في الحزب الوطني الإحتفال معنا لأنهم في طرة دلوقتي وحقيقة فإن فرح الإخوان بمقرهم العام بعد57 عاما من الغياب ربما دفعهم الي استضافة ألد أعدائهم السياسيين, و حتي أولئك الذين حرضوا طويلا علي اقصائهم وإنكار شرعيتهم, و بما في ذلك رئيس حزب التجمع الدكتور رفعت السعيد.