كم يزعجني قياس الكثيرين للمشاعر بمقاييس مادية بحتة, فهم يظنون أن لديهم القدرة علي الاتجار بالمشاعر, رغم أنها لا يمكن أن تدخل في حسابات المال والتجارة, وأظن أن هذا الكلام ليس بجديد, ولكن الجديد فيه, هو أن المادة إذا استعملت في بعض الأحيان للتعبير عن المشاعر, فإنها تخرج في هذه الحالة من دائرة الحساب المادي, لتدخل في دائرة الإحساس المعنوي, ودليلي علي ذلك, أننا نتهادي في المناسبات وغيرها; حتي نشعر باهتمام بعضنا البعض, فالقيمة المادية في هذه الحالة تتلاشي تماما, ويحل محلها الإحساس الدافئ الممتع, الذي يشعرنا بأننا محل اهتمام الغير, وأنهم يفكرون فينا أثناء غيابنا, ويشغلهم إسعادنا وبث روح المفاجأة بداخلنا, ولكن للأسف, لم يتجرد الكثيرون من ربط الأشياء بقيمتها المادية البحتة, دون أن يحاولوا التعمق في معانيها النقية, بالرغم من أن المعاني النبيلة الصادقة, لا يمكن تقديرها أو تقييمها بأموال العالم بأكمله. وأذكر قصة أظنها حقيقية, وهي تحكي عن ولد فقير يدعيهوارد كيلي, وقد كان في أحد الأيام يبيع السلع في البيوت ليدفع ثمن دراسته, وقد وجد أنه لا يملك سوي عشرة سنتات, لا تكفي لسد جوعه, لذا قرر أن يطلب شيئا من الطعام من أول منزل يمر عليه, ولكنه لم يتمالك نفسه وسيطر عليه الحياء, حين فتحت له الباب شابة صغيرة وجميلة, فبدلا من أن يطلب منها وجبة طعام, طلب أن يشرب الماء, وكانت الفتاة ذكية ولماحة, فحين رأته هزيلا ومتعبا, أدركت أنه جائع, فأحضرت له كوبا من اللبن, فشربه ببطء وسألها:بكم أدين لك؟, فأجابته:لا تدين لي بشيء, لقد علمتنا أمنا ألا نقبل ثمنا لفعل الخير, فقال:أشكرك إذا من أعماق قلبي, وعندما غادرهوارد كيليالمنزل, لم يكن يشعر بالنشاط فقط, بل إن إيمانه بالله وبالإنسانية قد ازداد, بعد أن كان يائسا ومحبطا, وبعد سنوات تعرضت تلك الشابة لمرض خطير, مما أربك الأطباء المحليين, فأرسلوها لمستشفي المدينة, حيث تم استدعاء الأطباء المتخصصين لفحص مرضها النادر, وقد استدعي الدكتورهوارد كيليللاستشارة الطبية, وعندما سمع باسم المدينة التي قدمت منها تلك الفتاة, لمعت عيناه بشكل غريب, وانتفض في الحال عابرا المبني إلي الأسفل, حيث غرفتها, وهو يرتدي الزي الطبي لرؤية تلك المريضة, وعرفها بمجرد أن رآها, فعاد إلي غرفة الأطباء, عاقدا العزم علي عمل كل ما بوسعه لإنقاذ حياتها, وبعد صراع طويل, تمت المهمة علي أكمل وجه, وطلب الدكتوركيليالفاتورة إلي مكتبه كي يعتمدها, فنظر إليها وكتب شيئا في حاشيتها, وأرسلها لغرفة المريضة, التي كانت خائفة من فتحها; لأنها كانت تعلم أنها ستمضي بقية حياتها تسدد قيمتها, وأخيرا, نظرت إليها, وأثار انتباهها شيئا مدونا في الحاشية, فقرأت تلك الكلمات:مدفوعة بالكامل, بكوب واحد من اللبن. فهل يمكننا في هذه الحالة تقييم كوب اللبن أو قيمة الفاتورة بالمال, بالرغم من أن كليهما شيئ مادي يمكن أن يخضع لقاعدة الحسابات, ولكن في الواقع كان تأثير كوب اللبن علي هذا الطبيب في معناه, وهو شعوره بأن الحياة مازالت مليئة بمعاني الحب والإنسانية والعطاء, وكذلك قيمة الفاتورة لم تكن بالقطع سدادا لهذا الكوب; لأن قيمته المادية يستحيل أن تقدر بهذا المبلغ, ولكن كان نوعا من التعبير عن المشاعر التي ظلت راسخة بداخله, منذ أن كان محتاجا, إلي أن أصبح طبيبا شهيرا وناجحا. للأسف, نحن نتفنن كثيرا في قتل المعاني النبيلة, وحصرها في إطار المادة فقط, ونتناسي عامدين أن المادة حينما تتخللها المشاعر والأحاسيس, تتجرد من صفتها المادية, وترتدي ثوب الأحاسيس النبيلة الطاهرة, وهكذا فإن للمادة وجه آخر.