خفض الجناح هو مجموعة من القيم والأخلاق التي إذا تحلي بها أي انسان كسب رضا الله سبحانه وتعالي قبل الناس فهو من الأخلاق الحميدة التي ينبغي أن تسود بين الناس, وعملية خفض الجناح تجلت واضحة في الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال دعوته إلي الله تعالي, وقد اقتدي الصحابة رضي الله عنهم والصالحون والعلماء بخلق الرسول في خفض الجناح. لأن الثمار التي تعود علي الأمة كثيرة من هذا الخلق العظيم. يقول الدكتور عبد الله ابو الفتح بكلية الدراسات الإسلامية إن التواضع وخفض الجناح من أهم الأخلاق الحميدة التي ينبغي أن تسود في المجتمع الإسلامي; ولهذا أمر ربنا عز وجل سيد الخلق نبيه محمد صلي الله عليه وسلم بالتحلي في معاملته للمؤمنين بهذا الخلق الجميل, فقال عز من قال, واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين], الشعراء:215] أي ألن جناحك تجاههم وتواضع لهم وارفق بهم وقاربهم في الصحبة, وتجاوز عن ما يبدو منهم من التقصير,واحتمل منهم سوء الأحوال, وعاشرهم بجميل الأخلاق. ولهذا حرص الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم علي معاملة أصحابه الكرام رضي الله عنهم بتواضع جم ولين للجانب لا يوصف فكان صلي الله عليه وسلم لطيفافي خطابه لهم, متوددا في معاملته إياهم,حتي وصفه ربنا عز وجل- بقوله, لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم], التوبة:128] فقوله تعالي:, عزيز عليه ما عنتم] أي يعز عليه الشيء الذي يشقي علي أمته; ولهذا جاء في الحديث أنه قال صلي الله عليه وسلم قال: بعثت بالحنيفيةالسمحة, وقال أيضاإن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة علي من يسرها الله تعالي عليه, وقوله تعالي, حريص عليكم] أي علي هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم; ولهذا قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم. ومن مظاهر تواضع رسول الله- صلي الله عليه وسلم وخفض جناحه أنه علي رفعة قدره وعلو منزلته كان يجلس بين أصحابه كواحد منهم,فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتي يسأل عنه, فعن أبي ذر- رضي الله عنه قال:,كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتي يسأل عنه...]. وكان- صلي الله عليه وسلم- أيضا إذا مر علي الصبيان سلم عليهم, فقد روي عن أنس- رضي الله عنه-: أنه مر علي صبيان فسلم عليهم, وقال: كان النبي- صلي الله عليه وسلم- يزور أصحابه في بيوتهم, ويسلم علي صبيانهم, ويمسح رءوسهم. وكان- صلي الله عليه وسلم- يشارك في خدمة أهله في البيت, فقد سأل بعضهم السيدة عائشة- رضي الله عنها- قائلا: ما كان النبي- صلي الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟, قالت: كان يكون في مهنة أهله- تعني خدمة أهله-, فإذا حضرت الصلاة خرج إلي الصلاة. بل لقد كانت الفتاة الصغيرة تأخذ بيد رسول الله صلي الله عليه وسلم فيمشي معها في شوارع المدينةالمنورة حتي يقضي لها ما تريد قضاؤه من الحوائج. ويضيف أبو الفتح هكذا طبق رسول الله صلي الله عليه وسلم خلق التواضع وخفض الجناح تطبيقا عمليا بين أصحابه فاقتدوا به في ذلك, وأصبح خلق خفض الجناح واضحا في حياة أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي إن سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه حين ولي إمارة بلد من بلاد المسلمين كان يحمل حزمة الحطب علي ظهره في طرق تلك البلد ويقول أوسعوا الطريق للأمير, وقالعروة بن الزبير- رضي الله عنه:, رأيتعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- علي عاتقه قربة ماء, فقلت: يا أمير المؤمنين!لاينبغي لك هذا!! فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة, فأردت أن أكسرها]. ولقد اقتدي العلماء والصالحون من هذه الأمة علي مر العصور بخلق رسول الله- صلي الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في خفض الجناح, فمن ذلك أن الإمامالمروزيقال:, لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلسأحمد بن حنبل, كان مائلا إليهم, مقصرا عن أهل الدنيا, وكان كثير التواضع, تعلوه السكينة والوقار, إذا جلس في مجلسه بعد صلاة العصر للفتيا, لا يتكلم حتي يسأل, وإذا خرج إلي مسجده لم يتصدر, بل يقعد حيث انتهي به مجلسه]. ولما استدعي هارون الرشيد أبا معاوية الضريرليسمع منه الحديث قدم له طعاما فأكل, ثم قام ليغسل يده, فقام الخليفة فصب عليأبي معاويةالماء, وهو لا يراه, ثم قال:, ياأبا معاوية! أتدري من يصب عليك الماء؟], فقال له: لا, فقال:, يصب عليك أمير المؤمنين], فدعا له, فقال الخليفة:,إنما أردت تعظيم العلم]. ولقد بين كثير من أهل العلم ما لخلق خفض الجناح والتواضع من مكانة سامية في هذا الدين, فمن ذلك أن سيدنا معاذ بن جبل- رضي الله عنهقال:, لا يبلغ عبد ذري الإيمان حتي يكون التواضع أحب إليه من الشرف, وما قل من الدنيا أحب إليه مما كثر, ويكون من أحب وأبغض في الحق سواء يحكم للناس كما يحكم لنفسه وأهل بيته]. وقال الحسن البصري:, التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا],وقال يحيي ابن أبي كثير:, رأس التواضع ثلاث أن ترضي بالدون من شرف المجلس, وأن تبدأ من لقيته بالسلام, وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر]. فما أحوجنا في هذه الأيام إلي تطبيق هذا الخلق الجليل حتي تسود الرحمة بيننا ليعطف الكبير علي الصغير, وليجد الضعيف والمسكين والأرملة واليتيم والمصاب من يحنو عليهم في مجتمعهم الذي يعيشون فيه. ويقول الدكتور علي الله الجمال من علماء الأوقاف إن معني خفض الجناح يأتي من قول القائل: خفض الطائر جناحه: أي ضمه إلي جنبه ليسكن من طيرانه, ومن هنا فإن معني( واخفض جناحك) وأي تواضع ألن جانبك, والتشبيه بجناح الطائر له تفسير جليل, وذلك أن الطيور عندما تراها باسطات أجنحتها في الهواء تكون عظيمة في نظرك ولكنها عندما تقبض أجنحتها تراها مسكينة فقيرة, وهكذا يجب أن يكون المؤمن مع أخيه,قال صلي الله عليه وسلم(وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). والله عز وجل قد أمر حبيبه بخفض الجناح فقال( واخفض جناحك للمؤمنين), والأمر له ولأمته أيضا والمطلوب من المؤمن الحقيقي أن يكون رفيقا بأخيه المسلم من خلال كلامه ومعاملاته وسلوكياته, وقد امتثل صلي الله عليه وسلم الأمر, ولذلك قال الله له: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. ويضيف الجمال ان الثمار التي تعود علي الأمة من خفض الجناح والتواضع منها: أن خفض الجناح يورث المحبة بين الناس والإيثار, ويجمع لا يفرق, ويورث الطاعة لله وللرسول, وينشر التسامح بين الناس,ومنها أنه يمحو الكبر والتفاخر والمباهاة والغرور, قال صلي الله عليه وسلم وإن الله أوحي إلي أن تواضعوا حتي لا يفخر أحد علي أحد, ولا يبغي أحد علي أحد, ومنها أنه يحقق معني الإخوة الكاملة التي وصفها القرآن ودعانا إليه في قوله تعالي في وصف المؤمنين( أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين) وفي قوله تعالي( رحماء بينهم), وعن عائشة رضي الله عنها, قالت: إنكم لتغفلون أفضل العبادة: التواضع. وحتي لا تختلط المفاهيم عند البعض فقد ذكر ابن القيم أن هناك فرقا بين التواضع والمهانة, فالتواضع: يتولد من العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته, ومن معرفة النفس وعيوبها وآفاتها.وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السفل في نيل شهواتهم وتواضع المفعول به للفاعل وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه فهذا كله من المهانة والدناءة. ومن هنا نعلم أن خفض الجناح والتواضع هو عين العز, لأنه طاعة لله ولرسوله, ويكفي المتواضع محبة الناس له, ورفعة المقام عند الله. ورحم الله من قال: كن أميرا مع الأمير, وفقيرا مع الفقير. ويقول الشيخ إسلام النواوي عضو لجنة تجديد الخطاب الديني بالأوقاف, رسم الله تبارك وتعالي المنهج الذي يسير عليه النبي( صلي الله عليه وسلم) في دعوته حيث قال واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وخفض الجناح هو مجموعة من القيم والأخلاق التي إذا تملي بها أي قائد أو زعيم كسب رضا الله تعالي قبل الناس. وهي التواضع واللين والحكمة في التعامل, وهذا لا يعني أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم خاضعا منكسرا. فعملية خفض الجناح تجلت ظاهرة في أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يكن يميز نفسه عن سائر الصحابة ولم يكن منعزلا عن واقعه ولم يكن يكلفهم بشيء فوق طاقتهم, وعلي سبيل المثال كان صلي الله عليه وسلم يعاونهم ففي سفر من أسفار النبي( صلي الله عليه وسلم) أراد الصحابة أن يأكلوا فوزعوا الأعمال علي بعضهم, وكان أقل الأعمال عند العرب هو جمع الحطب التي توقد به النار لطهي الطعام. فلم يستكبر النبي ولم يميز نفسه عليهم وقال بكل فخر وثقة معلنا تعاونه معهم وأنا علي جمع الحطب فاستشعر الصحابة الحرج فرفض الرسول صلي الله عليه وسلم أن يتنازل عن هذا العمل. ويشير النواوي أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد خفض جناحه في حال الشدة في غزوة الخندق, وهو القائد في هذه الحالة حين نزل وحفر الخندق مع الصحابة, وفي أكبر أزمة اقتصادية شهدها التاريخ وهي حصار المسلمين في شعب أبي طالب خفض جناحه لأتباعه حيث عاش واقعهم ولم يميز نفسه عنهم, وجلس معهم في موقع الحصار حتي انكسر الحصار. وأكد ربنا تبارك وتعالي أن خفض الجناح هو سبب في النجاح حيث قال في آية أخري فبما ورحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك سورة آل عمران, وعلي الرغم من أنه النبي وعلي الرغم من جماله إلا أن السر في التفاف الناس حوله هو رحمته والرحمة تشير إلي الخلق والخلق جزء من خفض الجناح. وكان خفض الجناح منهجا طبق علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم سار عليه من بعده الصحابة فالخليفة الذي أتعب الخلفاء من بعده أبو بكر الصديق كان ينتظر وقت القيلولة حيث تسكن الحركة في مكة ويذهب الناس لراحتهم ويخرج إلي خيمته في أطراف المكان فيدخلها ويقضي فيها وقتا ثم يعود فراقبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وانتظر حتي خرج من الخيمة ثم دخلها فوجد امرأة عجوزا كف بصرها فقال لها: ما يفعل عندك هذا الرجل؟ فقالت: يأتيني كل يوم فيطعمني ويقضي شئوني ثم ينصرف, ولا أدري من هو. فقال سيدنا عمر: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر. ويضيف النواوي اخفضوا جناحكم لأوطانكم وقت الشدة فينهض ويشتد عوده. اخفضوا جناحكم بالنصح للمخطئين فيتوبوا ويعودا اخفضوا جناحكم لأبنائكم بحسن التربية. فتجد جيلا ينهض بوطننا الحبيب. اخفضوا جناحكم لمصر فهي درة ذكرت في القرآن. وعاش علي أرضها الأنبياء. وستظل إلي ما شاء الله.