هارون الرشيد ذلك البطل المسلم والخليفة المتواضع الذي ظلمه المستشرقون فافتروا عليه بالكثير من الأكاذيب التي صدقها العوام وكثرت الأعمال الدرامية المليئة بهذه الأكاذيب وكأنها قد انقلبت إلي حقائق والذي لا يعرفه الكثيرون أن هارون الرشيد من أكثر خلفاء الازدهار الإسلامي أعمالا مجيدة وعبادة كثيرة ففي عهده كانت الدولة تمتد من الصين غربا إلي المغرب في الغرب فكانت من أكبر وأعظم الدول التي عرفها التاريخ لقد كان الرشيد أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا... لقد كان يحج عاما ويغزو ويجاهد عاما آخر, ولقد كان رحمه الله ذا شجاعة ورأي وكان من أحسن الملوك وأنبلهم, كان إذا حج أخذ معه مائة من الفقهاء والعلماء وأبنائهم, وإذا لم يحج, أحج ثلاثمائة منهم بالنفقة السابغة والكسوة التامة عليهم. الرشيد قاد الجيش وهو شاب صغير في عهد والده لقتال الروم ووقع معهم هدنة وأخذ عليهم الجزية. ولكن بعد أن تولي الخلافة وفي سنة سبع وثمانين ومائة(187 ه) نقض ملك الروم الهدنة التي كانت بين المسلمين وبين الملكة( ذيني) ملكة الروم, فكتب للرشيد كتابا يقول فيه:( أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ( طائر ضخم خيالي) وأقامت نفسها مقام البيدق( الطائر الصغير) فحملت إليك من أموالها أحمالا لضعف النساء وحمقهن, فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيني وبينك). فلما قرأ الرشيد رسالته كتب إليه:( قد قرأت كتابك والجواب ما تري لا ما تسمع) وسار إليه بجيش كبير حتي فتح مدينة( هرقل) وانتصر عليه انتصارا عظيما, وفي عهده لم يبق في الأسر مسلم, وظل طيلة حياته يحب الجهاد والفتوحات الإسلامية, فغزا الروم, وفتح هرقلة, وبلغ جيشه أنقره, كان يتصدق بألف درهم كل يوم, وكان يروي الحديث بسند متصل إلي جده النبي صلي الله عليه وسلم وكان رحمه الله يجل العلماء ويجالسهم ويستمع منهم الحديث والموعظة فيبكي حتي يبل الثري بدموعه... فقد دخل عليه يوما أحد العلماء وكان ضريرا فوعظه فبكي هارون... فجاءه مرة ثانية في دعوة علي الطعام, وبعد تناول الطعام. صب الخليفة الماء علي يدي هذا العالم ليغسلها وقال له: أتدري من يصب عليك الماء؟ قال لا: قال: أمير المؤمنين... قال: إنما أردت تعظيم العلم. لقد كان هارون عابدا, كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة إلي أن مات, وكان هارون الرشيد رحمه الله يتقبل الموعظة والنصيحة من أي شخص كان, ويبكي عند سماعه لها, فيروي أن عبد الله بن عبد العزيز العمري وعظ الرشيد يوما فأطنب.قال له وهو واقف علي الصفا بمكة: انظر كم حولها من الناس؟ مشيرا للكعبة فقال: كثير, فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه, وأنت تسأل عنهم كلهم, فبكي الرشيد بكاء كثيرا,, ثم قال له: يا هارون إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه, فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم؟ ثم تركه وانصرف والرشيد يبكي. قال له ابن السماك: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك, فاحذر المقام بين يدي الله والوقوف بين الجنة والنار, حين يؤخذ بالكظم, وتزل القدم, ويقع الندم. فجعل الرشيد يبكي بكاء شديدا. وجاوزت خشيته من الله الحدود, فكان جسده يرتعد, ويسمع صوت بكائه إذا وعظه أحد من الناس, يحكي أنه جالس( أبا العتاهية) الشاعر, وكلف أحد جنوده بمراقبته, وإخباره بما يقول, فرآه الجاسوس يوما وقد كتب علي الحائط: إلي ديان يوم الدين نمضي وعند الله يجتمع الخصوم فأخبر الجاسوس الرشيد بذلك, فبكي وأحضر أبا العتاهية, وطلب منه أن يسامحه, وأعطاه ألف دينار. وكان الرشيد قد حفر قبره في حياته, فنظر إليه وهو يقول: إلي هنا تصير يا ابن آدم ويبكي.ثم يقول: ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه. ويبكي ويقول: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة, يا من لا يموت ارحم من يموت. وظل طيلة حياته يحب الجهاد والفتوحات الإسلامية, فغزا الروم, وفتح هرقلة, وبلغ جيشه أنقره, مات الرشيد خلال إحدي غزواته بخرسان193, وقيل إن الرشيد رأي مناما أنه يموت بطوس فبكي وقال احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة علي جمل وسيق به حتي نظر إلي القبر فقال يا ابن آدم تصير إلي هذا وأمر قومه فنزلوا, فبكي وبكوا حتي مات, ليرحل أعظم خلفاء الإسلام شابا لم يبلغ ال45 عاما من عمره بعد تاريخ من الفتوحات الإسلامية المشهودة في كتب التاريخ. باحث لغوي