قد أسقط في مكان ما.. في لحظة ما.. لا مقدمات لهذا الغياب.. لا تدقيق بأي تفكير لحظتها.. سأري جسدي ممددا مثل رغيف من ألم.. من التراب سأبدأ رحلتي السرمدية.. ها هي عيناي تغور في عين الموت.. إنه موعدي مع تقبيل السماء.. كل الأشياء في نهاية رحلة الغفلة الأولي ستفقد معالمها حين يكشف عني غطائي.. عيناي ستشتعلان برؤي جديدة وقد استحال بصري حديدا.. ووحدي أرتقي في نفق طويل موحش ومظلم أتحسس خطاي نحو أرض إقامتي الجديدة.. التفت حولي فلا أري أو أجد أحدا.. أصرخ بملء حنجرتي.. أين أهلي.. أين عيالي.. أين مالي.. ولا مجيب.. يداي فارغتان إلا من فواتير كثيرة لكل ما حصلت عليه بحق أو بدون في حياتي.. حان وقت عرضها بين يدي الديان.. لا أدري يقينا هي معي ما يعينني علي الوفاء بما لم أسدد.. أم أن علي السداد بطريقة أخري؟.. الشمس تدنو من رأسي وقدماي متورمتان والعرق يلجم ما أراد مني فيما أقف في زحام بلا منتهي أنتظر سماع اسمي لأتقدم الصفوف إلي الحساب.. أقلب فواتيري بقلب واجف.. ما بالها لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.. أنظر بعيون مرتعشة إلي تلك التي لم أسدد في حياتي.. وبحسرة فات أوانها.. أتمني أن تنشق الأرض فتبلعني.. وأقول في نفسي يا ليتني كنت ترابا. غفوت برهة حين جاءني نبأ وفاة زميلنا العزيز علاء قابيل.. كان قبل أيام تحصيها أصابع اليد الواحدة يهاتفني ويحاورني بملء الحياة.. ما عدت أدري علي وجه اليقين أهو فمه أم فمي الذي فارق حوارنا لكنني أدرك تماما أنني مازلت أسمع صداه في أذني؟.. جال بخاطري شريط الموت وكيف يأتي بغته ليلبسك ثوبا من الضوء.. فتتلاشي عن كل من حولك.. عنقك المستقيم يميل فجأة علي صدرك ويهوي في سحيق بلا منتهي.. تموت الكلمات علي شفتيك.. ربما كان هناك حرف لم يولد هو الآخر سيرافقك برحلتك الأبدية.. سيغلق القبر دونك وحدك ويتواري المشيعون بعيدا.. لكن عيون الموت تبقي مفتوحة فينا دون أن ندري علي من سيقع اختيارها في المرة المقبلة. لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.. يا لهول هذه الكلمات.. لماذا كثيرون منا يرون في الموت بكل قسوته طريقا ناعما للحياة.. هكذا سألت نفسي؟.. كلما مر أحدنا بأزمة تمني الموت اعتقادا منه بأنه سيكون أهون ألف مرة مما يعانيه.. تراها الحياة استحالت جحيما لهذا الحد.. ألسنا المسئولين عن جعلها نارا أو جنة وعن كل ما تحصلنا عليه من فواتير يتوجب علينا سدادها كاش إن آجلا أو عاجلا؟.. قد يبدو كذلك.. لكن الأمر ليس بهذه البساطة.. ولا كل هذا التعقيد أيضا.. ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله هكذا قال السائل عن الجنة.. وأجابه الرسول صلي الله عليه وسلم بكل الحب: أنت مع من أحببت. الحياة إذن ليست نصرا.. بل هي مهادنة مع الموت.. كما يراها غسان كنفاني.. فيما يعتقد محمد الماغوط أن الموت ليس هو الخسارة الكبري.. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء.. وقد صدق في ذلك فما أكثر ما يموت فينا ونحن نلهو ونتنفس ونملأ الدنيا ضجيجا.. ومع ذلك تبقي أشياء كثيرة قابلة للبعث والحياة من جديد.. إلا الحب.. حين يموت فلا حياة بعده.