أغلب الظن أن حكاية سكب الكيروسين أو البنزين علي الملابس, ومن ثم إشعال ثقاب فيها بغرض الموت حرقا هو اختراع مصري صميم. ليس هذا فقط, بل إنه اختراع مصري نسوي ولعل الموضوع يحتاج إلي مؤرخ محترف وخبير علم نفس كي يفسر لنا إقبال النساء في مصر علي مر العصور لقتل أنفسهن, أو علي الأقل لفت الأنظار لمشكلاتهن عن طريق حرق أنفسهن بهذه الطريقة.أولع في نفسي؟! وأعرف أن مثل هذه الطريقة كانت معروفة ومنتشرة في المجتمع المصري, لا سيما في الأحياء الشعبية وبين الطبقات الفقيرة أو تلك القابعة في أسفل الهرم الاجتماعي والاقتصادي. وأذكر جيدا حكايات كنت أسمعها في طفولتي عن فلانة التي تشاجرت مع زوجها فدخلت الحمام وأشعلت النيران في نفسها, أو فلانة التي شك أبوها في سلوكها فسكبت الكيروسين علي ملابسها وحاولت أن تنتحر بالطريقة ذاتها, لكن أهلها تمكنوا من إطفائها, ولم تمت لكنها عاشت مشوهة, وغيرها من الحكايات الكثيرة والتي كانت تستقبلها المستشفيات الحكومية بكثرة. ووراء كل حالة كانت هناك حكاية غالبا ما تتعلق بمشكلة أسرية, أو قصة حب فاشلة, أو اتهامات تتعلق بالشرف وغيرها. والملاحظ أن السمة الأغلب كانت شعور أولئك النساء بالإحباط واليأس من حياتهن لدرجة تدفعهن إلي التخلص من أنفسهن بهذه الطريقة البشعة والمؤلمة, والتي إن فشلت تكون عواقبها أكثر بشاعة من الموت نفسه. ويكفي أن عبارة' أولع في نفسي علشان تستريحوا؟!' تعد من العبارات الفلكلورية الشهيرة التي ظلت تستخدم علي مدي دهور إما علي سبيل التهديد, أو التنديد وأحيانا بحثا عن الاهتمام والحب المفقودين. وأعتقد أن اختيار النساء لتلك الطريقة في التخلص من حياتهن يحمل رسالة واضحة ومباشرة بالإضافة للغرض الذي يبدو رئيسيا وهو الموت. فالمرأة التي تختار أن تموت بهذه الطريقة لا تود أن تبرح الحياة دون الإعلان الجهري والواضح والمباشر عن مأساتها. فالموت حرقا يخلق صورة درامية تراجيدية عالية الصوت بالغة التأثير. فهي ترتبط بمشهد مرعب يتلخص في جسد آدمي يشتعل تدريجيا وتراه يتحرك أمامك ويجري هنا وهناك ثم يتفحم إلي أن يتحول إلي رماد. والمرأة التي تختار الموت بهذه الطريقة لا تريد أن ترحل في هدوءن فهي تود أن يشعر كل من حولها بالذنب وتعذيب الضمير لما تسببوا لها من آلام, سواء كانوا عوامل مباشرة لمشكلاتها, أو لسكوتهم عليها. وهي تود كذلك أن تترك في ذاكراتهم ذكري أليمة بشعة, فهي تعرف جيدا أنه في حال نجحت محاولتها, فإن إسمها سيظل مقرونا بهذا المشهد المأسوي. انتحار ذكوري أما الرجال فقليلون جدا من يختارون الموت حرقا. فالرجل يلقي نفسه من أعلي كوبري, أو يشنق نفسه, أو يقف أمام قطار مسرع, أو ما شابه. أضف إلي ذلك أن النساء هن الأكثر إقبالا علي فكرة الانتحار عموما, وإن خفتت نسبة المقبلات علي الموت حرقا. وبحسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, فإن مصر شهدت في عام2009 نحو104 ألف محاولة انتحار. وفي العام نفسه, استقبل مركز السموم في مستشفي الدمرداش11 ألف حالة لأشخاص حاولوا الانتحار, بينهم8500 فتاة وسيدة. والمثير أن حكاية حرق النساء لأنفسهن لا تقتصر علي مصر, وإن كان لمصر الريادة. ففي أفغانستان مثلا تنتشر هذه الظاهرة لا سيما بين النساء والشابات الصغيرات في السن. وأغلب هذه الحالات تحمل في طياتها مجموعة من الأسباب المتشابكة تتراوح بين العنف المنزلي, والزواج القسري, والإحباط. إذن فإن الانتحار حرقا ليس جديدا في شئن لكن الجديد يتلخص في رأيي في ثلاث ظواهر. الأولي هي اعتناق الرجال لهذا المبدأ النسوي الشعبي, والثاني اصطباغ الانتحار بصبغة سوسيو اقتصادية وسياسية( يعني خلطبيطة من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية), والثالثة أن الانتحار والجو النفسي والبيئة الاجتماعية والإعلامية المحيطة به جعلته مثل العدوي عابرة الحدود. شوي المنتحر وبعيدا عن الأبعاد الدينية للانتحار, ومصير المنتحر سواء كان سيشوي في نار جهنم أو سيغفر له الله سبحانه وتعالي فعلته الحمقاء( فمثل هذه الأمور لا يعلمها إلا الله), فإن جميعنا يتذكر عددا من حالات الانتحار قام بها مصريون في السنوات القليلة الماضية يجمع بينها حالة من اليأس والإحباط, إما لعدم وجود فرص عمل, أو للشعور بالمهانة والذل لرفض جهة العمل تعيين الشخص لأسباب اجتماعية, أو لوقوع ظلم جارف علي الشخص وحرمانه من حقوقه. وفي كل مرة تقع فيها حالة انتحار كهذه, يقوم الإعلام ولا يقعد إلا بعد أسبوع أو عشرة أيام علي الأكثر, ويتحدث الخبراء والمحللون عن آثار البطالة المدمرة, وعواقب الطناش الحكومي لمشكلات الشباب المتنامية, وسلبيات العشوائية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسكانية التي تفرغ ملايين البشر غير المؤهلين كل عام في سوق عمل تحتاج- إن احتاجت- لكوادر بشرية ذات مواصفات وخبرات غير موجودة لدي الغالبية. وعادة لا يكون هناك رد فعل حقيقي من المسئولين الحكوميين الذين يفترض أن سياساتهم العقيمة أو المتراخية أو المتخاذلة هي التي أدت إلي بزوغ المشكلة في الأصل. لكن والحق يقال فقد شهدنا في الآونة الأخيرة ردود فعل حكومية أكثر جدية وأعلي صوتا, حيث نسمع الوزيرة الفلانية تؤكد أنه تم توفير2351 فرصة عمل للشباب, أو ذلك الوزير يجزم أن مشكلة البطالة هي مشكلة ذهنية غير موجودة علي أرض الواقع, وإن' إللي عاوز يشتغل بجد هيشتغل', أو مسؤولا ثالثا يبشرنا بأنه مع حلول عام3030 ستكون مشكلة البطالة قد تحم حلها من جذورها, وهكذا. بطالة مزمنة مشكلة البطالة مستمرة, ولن تقف عند حدود شخص أشعل النيران في نفسه مقلدا الأسلوب النسوي الشعبي القديم هنا أو قفز من النافذة هناك, أو حتي شنق نفسه. وهي مشلكة لا تتعلق بالمرحلة الآنية التي تكثر فيها, أو علي الأقل يتم فيها إبراز مثل هذه الحالات علي الصفحات الأولي للجرائد وفي مقدمات برامح ال'توك شو' الليلية, ولكنها مشكلة مستمرة منذ سنوات طويلة, ومقدر لها أن تستمر لسنوات طويلة مقبلة. والبطالة لن تحل بتوفير2351 فرصة عمل هنا, أو بتشجيع الشباب ضمنيا علي السفر والهجرة علي أمل أن تهاجر معهم مشكلاتهم. كما أنها لن تجد النهاية المرجوة بعمل نظام ضمان اجتماعي يحصل بمقتضاه المتعطل علي راتب شهري لحين حصوله علي فرصة عمل. هي مشكلة مزمنة تتعلق بتعليم عقيم, وخطط استثمارية غير جدية, وعشوائية تخطيطية, وعدم جدية في تناول المشكلة جذريا, وعدم وضع الشباب علي رأس قائمة الأولويات وقائمة طويلة من الأسباب الحقيقة التي نعلم جميعا علم اليقين معرفة الجهات المسؤولة علم اليقين بأسبابها الحقيقية وسبل علاجها الحقيقية. قد تمر أحداث تونس الثورية دون ان تعبر الحدود, وقد تقتصر الآثار علي بعض محاولات التقليد المستميتة في محاولة للفت الأنظار لمشكلات ومآس مستمرة منذ سنوات ومقدر لها أن تستمر لسنوات, فهل من مغيث؟! الانتحار قيادة ولا يقتصر الانتحار علي حرق الأجساد أمام مجلس الشعب, أو القفز من أعلي الشرفات والنوافذ والأسطح, ولكن هناك ظاهرة انتحارية نشهدها يوميا في شوارعنا, بعضها يندرج تحت بند الانتحار الجماعي, والبعض الآخر الاسري, والبعض الثالث وهو أقلية مصنف كانتحار فردي. لعبة السيارات المتصادمة, وقواعد لعبة' قاتل أو مقتول' التي نصر علي لعبها يويا في الشارع المصري دخلت مرحلة الخطورة القصوي. عنف ما عبده عنف, وجنون ما بعده جنون, وانفلات قانوني وأمني ما بعده انفلات. وعلي الرغم من الإشارات الضوئية الجديدة التي تعد للمنتظرين( إذا انتظروا من الأصل) عدد الثواني المتبقية حتي يتغير لون الإشارة, بالإضافة إلي الكاميرات التي يفترض أن تصور المخالفين. وقد لوحظ في الأيام الأخيرة تسلل العادة المصرية الأصيلة إلي هذه الإشارات الإلكترونية, فقد اعتادها قادة السيارات, ولم يعدوا يهابونها, وعادت ريمة إلي عادتها القديمة. وإذا أضفنا إلي ذلك بالطبع جنون القيادة واختلاط منظومتي الفتاكة والفكاكة والفهلوة والحداقة من جهة بالمرض العقلي الحقيقي من جهة أخري, نجد أساليب القيادة التي لا تعترف بقاعدة ولا تلتزم بقانون ولا تحترم إشارات ولا ترفع إلا شعار' البقاء للأقوي والأكثر رعونة والأعمق عنفا'. وعلي الرغم من أن الجميع من حكومة ومواطنين يعرفون جيدا أسباب وقوع الحوادث المميتة, وتراوحها بين سوء حالة الطرق, والمقطورات, والأخطاء البشرية, إلا أن الأخيرة لها اليد العليا. وإذا كانت الطرق تحتاج إلي مليارات لتحسينها, والمقطورات تحتاج إلي سنوات لضبط أمورها, فإن الأخطاء البشرية لا تحتاج إلا إلي حزم وحسم في تطبيق القانون, وقدر أكبر من الاهتمام من قبل القيادات المسؤولة عن المرور. وجميعنا علي ثقة تامة في قدرة مسئولي المرور علي تحقيق الأمن المروري المرجو, والذي نراه يتحقق بدقة وحنكة في ظرف دقائق حين يمر موكب هنا أو يتم الإخطار بقرب وصول موكب هناك. كلنا عرضة للقتل علي الطريق في ظل الغياب الأمني المروري شبه الكامل, وكلنا يعرف تماما أن الصولات والعساكر الذي ينظمون حركة وقوف السيارات الملاكي صف ثاني وثالث ورابع أمام البنوك ما هم إلا جباة للأموال دون وجه حق, وأن دفتر المخالفات الذي يحلمه البعض ما هو إلا أداة تهديد لمن تسول له نفسه عدم دفع المعلوم. صحيفة' إندبندنت' البريطانية الشهيرة كتبت قبل أيام أن الطرق في مصر قاتلة, ونصحت المسافرين البريطانيين إلي مصر بضرورة توخي الحذر. وطالبتهم في حال شعروا بأن السائق يقود السيارة أو الباص بسعرة زائدة عن حدود السلامة أن' يأمروه' بتقليل السرعة. حين يقتل12 ألف مصري كل عام علي الطريق بسبب جنون القيادة وغياب القانون, فأكيد ده حرام. وبدلا من فتاوي دخول الحمام بالرجل الشمال, وحكم ظهور صباع رجل المرأة الصغير, هل يفتينا أحد في مسألة تعريض النفس والآخرين للخطر بسبب القيادة الجنونية؟ وكذلك حكم من بيده أن يطبق القانون ويحاسب المخطئ لكنه لا يفعل؟!