الليلة.. الليلة.. الليلة ياسمرة.. ياسمارة.. الليلة ياسمرة.. وقف( صلاح) منتشيا سعيدا يغني ويتمايل كشجرة قد تلاعب بها هواء أمشير.. أجساد بشرية كثيرة تلتف من حوله الغضب كل الغضب قد ارتسم علي وجوههم. أياديهم ممتدة إليه بالأوراق كي يقوم بتصويرها.. من وقت لآخر راح الاستاذ محمود صاحب المكتبة يرميه بنظرات كثيرة حارقة حتي يوقف صوته النشاز الذي يعيقه عن قراءة جريدة الصباح القابعة بين يديه والتي راحب تفر منها الكلمات فرا.. كم من مرة وقعت مصادفة عين( صلاح) في عين الاستاذ( محمود) وسرعان ما فهم( صلاح) مقصده.. وسرعان ما توقف عن الغناء نهائيا.. سعادة( صلاح) الغامرة راحت تدفعه دفعا للغناء مرة أخري, سريعا يعود ليغني وهو يتراقص ومن وقت لآخر يخرج علبة السجائر ويشعل سيجارة, وقبل ان يضع علبة الكبريت داخل جيبه الصغير علي الفور يقوم بتقبيلها.. تفرس الاستاذ( محمود) في وجهه غيظا, غاضبا وضع الجريدة جانبا, راح يفكر في أمر( صلاح) لوقت طويل.. اسئلة كثيرة خرجت متتالية مندفعة بقوة الصاروخ من رأسه. صار السؤال يولد من رحم السؤال السابق وكأنها مجموعة عقد متشابكة ما ان تفك الواحدة حتي تفسح للأخري: لماذا أجده هكذا سعيدا كل هذه السعادة كل يوم خميس فقط..؟ لماذا أجده دائما يردد تلك الأغنية الوحيدة التي لا يعرف فمه غيرها..؟ لماذا أجده دائما يقبل عليه الكبريت من وقت لآخر كل هذه القبلات المتتالية تحديدا في هذا اليوم دون غيره من الأيام..؟ لماذا.........؟! لماذا.........؟! لماذا.........؟! علامات الاستفهام المتدفقة بقوة من رأسه التفت من حوله صانعة حبلا قويا.. رويدا.. رويدا.. اقترب من رقبته وكاد ان يخنقه دون أن يصل إلي اجابة واحدة تشفي غليله, استسلم مرغما لسماع صوته.. مد يده والتقط الجريدة الماثلة امامه وهويتمتم في غيظ: دع الملك للمالك.. الليلة.. الليلة.. الليلة ياسمرة.. ياسمارة.. الليلة ياسمرة.. أووووووووووووف في عصبية شديدة وضع يدية الاثنتين فوق أذنيه حتي لا يسمع صوته.. (2) أين علبة الكبريت..؟! صرخ( صلاح) في وجوه الملتفين من حوله, الكلمات اخترقت أذنيه.. غاضبا عاد ووضع الجريدة جانبا وراح يراقبه عن قرب.. أين علبة الكبريت..؟! من بعيد راح الاستاذ( محمود) يستطلع أمر( صلاح الذي مازال يردد في عصبية: أنت الذي أخذتها مني.. لا.. لا.. أنت.. كان حجم الدهشة يزداد داخل الاستاذ( محمود تدريجيا), متطوعا أخرج أحد الزبائن الواقفين من جيبه علبة كبريت.. مبتسما مد يده: خذ ياعم صلاح.. أرجوك خلصني أنا مستعجل.. فتحها في عجالة.. تفحص ما بداخلها.. صرخ في وجه الرجل بقوة: لا.. ليست هذه علبة الكبريت.. اشتعل بركان غضب الاستاذ محمود, أخرج ثان علبه كبريت أخري وراح يقول في غيظ: خذ.. هذه علبة كبريت مختلفة عن الأولي.. فتحها.. نظر إلي ما بداخلها وسرعان ما صرخ في وجه الرجل: لا.. ليست هذه علبة الكبريت.. البركان وصل حتي المنتصف, أخرج ثالث علبة ثالثة.. مد يده كاتما غيظه وهو يقول: خذ.. هذه علبة كبريت ممتلئة عن آخرها.. نظر إليها.. ودون ان يفتحها صرخ في وجه صاحبها: لا.. ليست هذه علبة الكبريت.. انفجر بركان غيظه, نهض ووجهة تعلوه معالم الحيرة والغضب, صرخ الاستاذ( محمود) في وجه( صلاح): ماذا يحدث..؟ في حزن شديد قال صلاح: أحد الزبائن أخذ مني علبة الكبريت كي يشعل سيجارة.. وبعد فترة اردت أن أشعل سيجارة بحثت عن علبة الكبريت فلم أجدها.. تذكرت أنني لم آخذها منه و.... قاطعة الأستاذ( محمود) في حدة: الزبائن عرضوا عليك ثلاث علب كبريت.. لماذا لم تأخذ واحدة..؟ أليست هذه علب كبريت..؟! قال( صلاح) وعيناه تلمعان ببريق حزن شديد: لا.. علب الكبريت هذ تختلف تماما عن علبة الكبريت التي أخذها مني الرجل.. أخرسته المفاجأة للحظات.. جن جنونه.. همش في ضيق: أستغفر الله العظيم.. ثم أردف يقول: وهل هذه العلبة صنعت خصيصا من أجلك أنت.. ؟! وسرعان ما راح يضرب كفا بآخر.. ثم اردف قائلا: انتبه إلي شغلك ياصلاح.. راح يقول وهو يكبت حزنا يكاد يفتك به: وعلبة الكبريت يا أستاذ محمود..؟ ملعون أبو دي علبة الكبريت.. لم يستسلم( صلاح)..عاد وصرخ في الوجوه الواقفة من حوله: أنت الذي أخذتها مني..لا..أنت.. لا..لا أنت.. غاضبا..ظل يدفعه الأستاذ( محمود) خارج المكتبة..وراحت الكلمات تخرج من فمه نارية الوقع: عندما تجد علبة الكبريت عد إلي المكتبة.. بدا( صلاح مفلسا لايعرف كيف يرد..خطا خطوات حتي وجد نفسه في الشارع يتخبط المارة, ظل يحدق في وجوههم وهو يردد: أنت الذي أخذت علبة الكبريت..لا..أنت الذي أخذتها..الوجوه تفر من أمامه فرا, استوقفه رجل هرم وراح يقول: خذ يابني علبة كبريت..ربنا يشفيك ويشفينا مبتسما أمسكها..راح ينظر إليها طويلا..فتحها..أفرغ محتوياتها علي الأرض ثم راح يطأ عيدانها..مذهولا راح يقول: لا..ليست هذه علبة الكبريت..تركه الرجل وهو يتمتم: (لا حول ولاقوة إلا بالله..) كسكير..راح يترنح يمنة ويسرة وهو يردد: علبة الكبريت..الليلة ياسمره..استوقفته امرأة عجوز..فتحت حقيبتها المعلقة فوق كتفها وراحت تقول: خذ..خذ يابني هذا الجنيه..اشتر به كله كبريت.. قال بهمس مسموع وعيناه تبحثان يمنة ويسرة: علبة الكبريت..علبة الكبريت ياخلق الله.. أضناه السير طويلا..ملامحه تشي بالتعب..وجه شاحب..عيناه تميلان إلي الاحمرار قليلا من كثرة بكائه..جلس علي قارعة الطريق.. بعدما اعتقد أنه قد أصبح يسير علي رأسه..راح يضرب أخماسا في أسداس..لايدري ماذا يفعل...؟! هل يستسلم لضياع علبة الكبريت ويعود إلي البيت...؟!وكيف يعود إلي البيت بدونها...؟! بدونها لاقيمة له في هذا اليوم.. (طلقني أفضل لك من الفضائح) تذكر مقولة زوجته( سمر) التي سوف يسمعها حتما عندما يعود إلي البيت دون العثور علي علبة الكبريت.. (طلقني أفضل لك من الفضائح) تلك الكلمات التي راحت تتردد داخل أذنه كطلقات رصاص.. همس في حزن: عبده أغلق أذنيه وراح يتذكر أول لقاء جمع بينهما.. (أن كنت راجل طلقني أفضل لك من الفضائح) لم يستطع الرد عليها..وكيف يرد وهو ليس لديه أي رد بعد أن ركبه العجز..كل العجز( دلدل رجليه) فكان لزاما عليه أن يسكت مرغما..؟! فجأة وجد نفسه تاركا البيت..تاركا لقدميه العنان..لايدري إلي أين حتي وجد نفسه يجلس بين أصدقائه مهموما حزينا يبوح إليهم بمشكلته الوحيدة مع زوجته, وهو لايدري ماذا يفعل مستعينا بهم علي حلهم بعد أن ضاقت به الدنيا..وحتي يمنع وقوع الطلاق فهو يحب زوجته حبا شديدا.. وجد من بينهم( عبده) الذي لم تتعد معرفته به سوي دقائق معدودات عندما دخل عليهم فراح( محمد) يعرفه به وهو يقول: (عبده أبو الخلاص كله..أبو الحلول كلها) راح( عبده) يعده علي حل مشكلته بل وراح يقسم له أن الحل عنده ولكن عليه أن ينتظر عودته من القاهرة في الخميس القادم..(ولماذا لا يكون الحل الآن) غاضبا قالها( صلاح) في عجب من أمره.. (اصبر وماصبرك إلا بالله..ياخبر بفلوس يوم الخميس يصبح مجانا) راح( صلاح) يعد الأيام عدا منتظرا يوم الخميس بفارغ الصبر.. منكسرا.. حزينا.. مستسلما لنظرات زوجته الحارقة في( الروحة والجايه) تلك النظرات التي يشعر علي أثرها بالعجز..العجز الكلي..حتي جاء يوم الخميس بطيئا كطفل رضيع يحبو لأول مرة.. جلس ينتظر عبده العائد من بلاد الحضر وهو يحدث نفسيه: (يوم الخميس يكرم المرء أو يهان) جاء( عبده).. استقبله( صلاح) استقبال الفاتحين..راح يصافحه بحرارة تارة وتارة أخري يحتضنه بشدة مقبلا خديه..جلس عبده..نظرات صلاح المتلاحقة جعلت يد عبده تمتد وتفتح حقيبته الجلد السمراء ناعمة الملمس..عيون صلاح معه تتبع حركاته..تسجلها لحظة بلحظة منتظرا أن يخرج إليه الفانوس السحري الذي يأمره فيطاع..وكل ماعليه فعله حسب علمه أن يقوم بدعك الفانوس فقط تماما مثلما شاهد أحداث فيلم( إسماعيل ياسين والفانوس السحري) وعندما يخرج العفريت سريعا وهو يردد: (شبيك لبيك عبدك ياصلاح بين أيديك..أمرك مطاع) علي الفور يضع( صلاح) رجلا علي رجل بكل عجرفة ويملي عليه كل شروطه..هكذا خيل لصلاح أو هكذا راح يحلم..القلق..كل القلق قد ارتسم بقوة فوق وجه صلاح..يد عبده العائد من القاهرة منتصرا راحت تعبث داخل فم الحقيبة طويلا.. همس صلاح في خوف شديد: (أيكون قد سرق الفانوس...؟!)( أو يكون العفريت قد مات مخنوقا داخل الحقيبة) مبتسما أخرج عبده يده من الحقيبة..غرس صلاح عينيه في أصابعه المغلقة بشدة..وقف عبده أمام صلاح فاتحا يده..دس في كفه( الكبسولة) وهو يقول في ثقة: (إليك الحل السحري) في ألم راح يهمس: (أين الفانوس السحري...؟! متعجبا راح ينظر للشيء القابع في كفنه والذي لايتعدي طوله عقلة الإصبع..قال وهو يقلبها بين أصابعه: (ماهذا...؟!) رد عبده في ثقة: ( عليك أن تجرب..يضع سره في أضعف خلقه) في ضيق من أمره قال صلاح: (من قال لك إني مصدع) ضحك عبده وهو يمد إليه كوب الماء وفي ثقة راح يردد: (جرب..صدقني لن تندم أبدا) مضطرا ابتلعها..دقائق وأمره عبده بالذهاب إلي زوجته مشترطا عليه أن يقوم بتليين رأسها أولا وقبل كل شيء ببعض الكلمات..متعجبا راح ينظر إليه غير متفهم مقصده..شارحا راح يقول عبده: ( ابتسامة ثم همسه ثم كلمة ثم لمسة وسوف تجد المفعول السحري..) ومنذ هذه اللحظة لم تعد زوجته تتفوه بكلمة الطلاق مرة أخري..بل راحت تنتظر بفارغ الصبر مجيء يوم الخميس من كل أسبوع.. بل والأكثر من هذا أطلقت عليه ألقابا وأسماء عدة.. (أسد الغابة) و.. (سيد الرجال) ومن يومها اعتاد علي تناول الكبسولة السحرية التي يأتي بها صديقه الصدوق( عبده) كل يوم خميس عند عودته من القاهرة لقضاء إجازته الأسبوعية يومي الخميس والجمعة..اليوم يوم الخميس..عيد المتزوجين الأسبوعي كما يسميه هو..لقد ضاعت الليلة بضياع علبة الكبريت..فقد اعتاد صباح كل خميس أن يضع الكبسولة داخل علبة الكبريت خوفا عليها من السقوط فليس هناك مكان أأمن من علبة الكبريت حتي يضعها بداخلها.. قام صلاح بعد أن مزقته سكاكين الفكر..راح يتخبط المارة..يحدق في وجوههم بشدة..وكلما وجد رجلا يرتدي نظارة يقول: أنت الذي أخذت علبة الكبريت.. لا.. لا..أنت.. أنت الذي أخذتها. محمود أحمد علي الشرقية