سعدت كثيرا بتأكيد الرئيس حسني مبارك في خطابه أمام الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشوري بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة, في19 ديسمبر2010, علي مفهوم الدولة المدنية الحديثة حيث قال: إننا نبدأ بهذه الدورة البرلمانية مرحلة جديدة للعمل الوطني مرحلة مهمة نبني خلالها علي ما حققناه في السنوات الماضية.. ونسعي فيها إلي انطلاقة جديدة نحو المستقبل.. انطلاقة تنتقل بمصر إلي آفاق أرحب.. من النمو والتقدم الاقتصادي.. والعدالة الاجتماعية.. والمشاركة الشعبية.. لقد تبدلت حياة المواطنين اليوم في جوانب كثيرة منها إلي الأفضل بفضل برنامج إصلاح طموح وشامل حظي بأولوية رئيسية علي مدار السنوات الماضية.. لم يأت هذا البرنامج من فراغ وإنما حكمته رؤية استراتيجية تمسكت بها وأتمسك بترسيخها في المستقبل.. رؤية ترتكز علي إرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة وتعميق الوسطية والاعتدال.. رؤية تنطلق من إعادة صياغة دور الدولة كمنظم ومحفز للنشاط الاقتصادي, وقيامها بدور محوري في توفير أكبر قدر من الرعاية للفئات الأكثر احتياجا وفي فقرة أخري من الخطاب قال الرئيس: سوف نحقق المجتمع المصري الذي نتطلع إليه.. ويتطلع إليه أبناء الشعب.. نعرف طريقنا إليه.. وقطعنا عليه شوطا طويلا.. سوف نمضي علي هذا الطريق باطمئنان وعزم ويقين.. نقطع عليه أشواطا جديدة لنرسخ دعائم مصر القوية الآمنة.. والدولة المدنية الحديثة والمتطورة.. يضمن ثبات مسيرتنا الدستور والقانون والمؤسسات.. ويدفع خطواتنا شعب عريق.. لا يلقي بالا للمشككين.. يحلم بالمستقبل الأفضل.. ويسعي إليه.. ويجتهد من أجله. وسبب السعادة هنا أن تصريح رئيس الدولة بهذا المفهوم كجوهر وأساس للدولة المصرية هو توضيح لا بد منه بعد أن حاولت جهات كثيرة أن تغير منه وهو الذي قامت عليه الدولة عندما قامت للمرة الأولي عام1922 وبعد أكثر من قرن من وضع الأسس التي قامت عليها منذ عهد محمد علي ومن خلفه حيث تراكمت أصول الدولة الحديثة علي النمط الذي بات يعرفه العالم للدولة الوطنية. فالحقيقة هي أن إعلان استقلال مصر علي ما شابه في ذلك الوقت من شوائب الاحتلال, لم يكن استقلالا عن الدولة المحتلة فقط, ولكنه كان استقلالا عن الخلافة العثمانية التي كانت تعيش آخر أيامها وسرعان ما انهارت بشكل كامل عام1924, ولكن رغم قدم المفهوم, وتطبيقه عبر قرنين وأكثر من الزمان فإن قوي كثيرة في مصر تحاول تدمير هذا الأساس للدولة المصرية, وتشويه أصوله مما يستدعي توضيحه وشرح أبعاده. إن ثمة خصائص عديدة تتسم بها الدولة المدنية الحديثة: الأولي, أنها لا تسعي فقط من أجل تحقيق أعلي قدر من النمو الاقتصادي وتكريس حالة من الاستقرار الداخلي, وإنما, تجتهد من أجل تبني برنامج إصلاحي ربما لا يمكن تنفيذه إلا بالتدريج, لكن المهم أنه يسعي إلي إجراء عملية تغيير للوضع القائم والتداعيات التي تمخضت عنه, بشكل يساعد علي التوافق مع المستجدات والتطورات التي يشهدها العالم. وفي هذه اللحظة فقط, سوف يضيق إلي حد كبير المجال والهامش المتاح لتحركات التيارات الأخري سواء الرجعية التي تحبذ الجمود وترفض التطور والنمو والاستقرار, أو الراديكالية التي تورط دولها, في كثير من الأحوال, في أزمات متكررة تمتد من عدم الاستقرار إلي الحروب الأهلية التي تأتي علي الأخضر واليابس إلي انتشار المجاعات وتدفق اللاجئين وغيرها. والثانية, أن مهمتها الأساسية تتمثل في أنها تشكل حاضنة تستوعب كل الأطراف داخلها. لا تستبعد أحدا ولا تصادر حقه في الممارسة والتفاعل مع الآخرين, بسبب اللون أو العرق أو الجنس. تحافظ علي حقوق وحريات الجميع. شعارها مبدأ المواطنة الذي يحكم تفاعلات مواطنيها وفي الوقت نفسه يضبط تحركاتها وإجراءاتها تجاههم. ودون شك, فإن هذا المبدأ تحديدا يرتبط بشدة بهذه النوعية من الدول, فلا دولة مدنية دون مواطنة, ولا مواطنة دون دولة مدنية تقوم علي قاعدة العدالة والديمقراطية والمساواة بين الجميع دون استثناء. والثالثة, أنها تمتلك القدرة والإمكانيات المختلفة التي تمكنها من الإنتاج والتطوير والتكيف مع التطورات التي تشهدها الساحتان الداخلية والخارجية في المجالات كافة, وعلي تغيير وتعديل رؤيتها للتفاعل مع محيطها, بشكل يجعلها في كل الأحوال قادرة علي تفعيل واستثمار الإيجابيات وتجنب السلبيات. بمعني آخر إنها الدولة التي تستطيع تبني مواءمة خاصة بها تضمن من خلالها لإجراءاتها الفعالية والتأثير ولمواطنيها الأمن والاستقرار الاجتماعي. والرابعة, أن هدفها الأساسي هو الإصلاح والتطوير وليس الدمار والتخريب علي عكس التيارات الرجعية والراديكالية الأخري التي أثبتت التجربة, في كثير من النماذج, أنها لم تجلب سوي الحروب والمجاعات والفساد وغيرها. وثمة تقارير ودراسات عديدة بدأت توضح تأثير هذه التيارات علي البلدان التي توجد بها. فقد كشف تقرير أعده مجموعة من الخبراء من أوروبا وأفريقيا ونشرته شركة فرونتير إيكونوميكس للاستشارات أن تكلفة أي حرب أهلية في السودان يمكن أن تنتج عن إجراء الاستفتاء علي استقلال جنوب السودان في يناير القادم سوف تصل إلي100 مليار دولار علي المستويين المحلي والإقليمي, بمعني أن تداعياتها لن تقتصر علي السودان وحده, لكنها ستمتد حتما إلي دول الجوار, حيث يتوقع التقرير أن تستنزف هذه الحرب المحتملة نحو34% من إجمالي الناتج المحلي لدول الجوار علي مدار عشر سنوات, كما أن بعض هذه الدول ربما تفقد ما يزيد علي مليار دولار سنويا بسبب تلك الحرب الأهلية, لأن ثمة تأثيرات أخري سوف تتمخض عنها أهمها هروب الاستثمارات من دول المنطقة واستقرارها في مناطق أكثر أمنا, وزيادة نسبة الإنفاق العسكري في الموازنات وتزايد تدفق اللاجئين وما يسببه ذلك من أزمات اجتماعية واقتصادية وغيرها. كما أوضح كتاب أصدر ترجمته العربية معهد دراسات السلام, الذي استضافته مكتبة الإسكندرية, بعنوان تكلفة الصراع في الشرق الأوسط, وصدر عن مجموعة استراتيجيك فورسايت في الهند, أن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الصراعات في الشرق الأوسط في الفترة من عام1991 حتي عام2010 وصلت إلي12 تريليون دولار, ما جعل منطقة الشرق الأوسط تحصل علي المرتبة الأولي علي مستوي العالم من حيث المناطق الأكثر تسليحا, اعتمادا علي عدد من المؤشرات مثل نصيب النفقات الدفاعية من إجمالي الناتج القومي, والخسائر البشرية, وعدد العاملين المرتبطين بالمجال الأمني, وغيرها. ووفقا للتقرير, فإن6% من متوسط إجمالي الناتج المحلي في منطقة الشرق الأوسط تم تخصيصها للنفقات العسكرية في عام2005 وبالطبع فإن هناك عددا من الاستثناءات تخرج عن هذه القاعدة مثل حالة الأحزاب السياسية الدينية في دول مثل تركيا والمغرب وإندونيسيا, لكن هذه الأحزاب استطاعت تجاوز الإشكاليات الموجودة أمام القوي الأخري, حيث تبنت سياسة تسامحت مع الواقع, ووضعت الدين كمرجعية أخلاقية لا تفرض قيودا علي الدولة بقدر ما تدعم خطواتها نحو الإصلاح والتطوير, ولا تسلب حقها في التوافق مع معطيات العالم الذي تعيش فيه ويفرض عليها قواعده. لا تنطلق من مسلمات في تعاملها مع الآخر بشكل جنبها الوقوع في أزمات متكررة معه وتحمل خسائر كانت في غني عنها. لا تري غضاضة في السعي إلي التقدم والرقي العلمي والتكنولوجي وتبني النموذج الرأسمالي, من خلال جذب الاستثمارات الخارجية والتواصل مع حركة التجارة العالمية. والسادسة, أن الدول المدنية الحديثة لا تملك تاريخا كبيرا, إذ لا يتعدي عمرها عددا قليلا من مئات السنين, وقد ارتبطت بشدة بمفهوم العقد الاجتماعي, الذي يقوم علي اتفاق بين مجموعة من الأفراد علي تكوين هيكل سياسي واقتصادي فيما بينهم يتوافقون من خلاله علي نظام معين من الحكم لإدارة علاقاتهم التي تسير في اتجاه مستقيم, حيث لا توجد فروق بينهم بسبب العرق أو اللون أو غيره. وتعتبر مصر أول دولة عربية تبنت مفهوم الدولة الحديثة, منذ أكثر من قرنين وبالتحديد منذ عهد محمد علي, حيث مرت بمراحل عديدة في تاريخها ترسخت فيها فكرة المواطنة واستقامت من خلالها العلاقة بين مواطنيها علي عقد اجتماعي متفق عليه, وقد نضجت هذه الفكرة خلال ثورة1919, لكنها واجهت مشكلات بعد ذلك علي خلفية ظهور التيارات الدينية التي لم تكن مشكلاتها مع الواقع مرتبطة بطبيعة النظام الحاكم, وإنما بهوية الدولة القائمة والمحددات التي تحكمها وعلي رأسها العلاقة بين مواطنيها. وهنا ينبغي الأخذ في الاعتبار أن تبني مبدأ المواطنة في الدولة المصرية الحديثة لا ينتج عداء للدين, فالأخير موجود داخل المجال العام, من خلال عملية الاجتهاد التي ترفض مصادرة التفسير الديني, وتضفي فعالية خاصة علي التفاعلات الثقافية والعملية لهذه الدولة المدنية. وهذه المواءمة الخاصة بالتجربة المصرية وضعتها في موقع وسط بين النموذج التركي الذي تسامح مع الواقع وتبني أطروحات ساعدته علي التكيف مع التطورات والمستجدات دون التقيد بمرجعية دينية, والسعودي الذي وضع القرآن كنظام أساسي للدولة. [email protected]