كلية دار العلوم من أعرق منارات العلم في مصر, ويزيد عمرها علي140 عاما, حملت علي كاهلها خلالها دراسة وتطوير اللغة العربية وآدابها إلي جانب الدراسات الإسلامية. وقد أهدت لنا دار العلوم مبدعين في كل مجالات الأدب, يصعب حصرهم, إلي جانب علماء في شتي فروع الدراسات العربية والإسلامية, ووزراء نابغين. ففي هذه الكلية العريقة مئات الأساتذة المتخصصين في مختلف فروع المعرفة اللغوية, والذين بإمكانهم الإسهام في نقد الخطاب المتشدد, وإعادة إنتاج خطاب عصري, لا يفصلنا عن العالم, ولا يحتجزنا في مشكلات الماضي, وتنقية هذا الإرث مما لحق به من تشويه, سواء كان متعمدا, نظرا لارتباط معظم الفقهاء بالسلطة علي مدي تاريخنا الطويل, أو لاعتماد تراثنا علي النقل غير العلمي, وامتلائه بأساطير وأكاذيب راكمت طبقات من الأتربة علي جوهر فكرنا الإسلامي, حان الوقت أن نتخلص منه, بعد أن اعتمدت بعض الفرق علي تفاسير نتجت من ركام تجمع طوال أزمنة طويلة, حتي أصبحت الأجيال الجديدة لا تعرف كيف تتعامل مع هذا الركام, وتعتبره جزءا من ديننا, فامتثلوا إليه بحسن نية, أو بإيعاز من جماعات ذات مصالح في استخدام هؤلاء الشباب وقودا لمعارك مع المجتمع, بهدف هدمه أو تقويضه رأسا علي عقب, لكي يسهل غزوه وابتلاعه من قوي إقليمية ودولية تتربص بنا, نشرت الفوضي في المنطقة لنتقاتل ونهدم, بدل أن نعيش عصرنا, ونبني أوطاننا علي أساس من التسامح والتقدم. إن انتشار الإرهاب وجماعات داعش والنصرة وغيرها التي تذبح وتسبي وتروع باسم الجهاد, وتستند إلي منظومة من الأفكار, تدعي أنها الإسلام الصحيح, يلقي علينا جملة من التحديات, المتعلقة بإعادة قراءة تراثنا العربي والإسلامي, وتنقيته مما شابه في عصور التخلف, فإن كلية دار العلوم بقاماتها العلمية هي القادرة والمؤهلة علي إنجاز الكثير في هذا الحقل. لقد سبقنا أوروبا في علوم اللغة, بفضل علماء نوابغ أمثال سيبويه, لكن دراساتنا عانت من إهمال طويل, فسبقتنا أوروبا في مجال تطوير الدراسات اللغوية. وقد سمعنا كلمة الرئيس السيسي في عيد العلم, وهو يسعي إلي إعادة الهيبة الي العلم والعلماء, وإحداث طفرة في البحث العلمي, وأدرك أن كلية دار العلوم لها مكانة خاصة, ودور هام في الدراسات العربية والإسلامية, وآن لها أن تحتل المكانة اللائقة بها, وأن تحصل علي النصيب الأكبر في مجال البحوث, ومخصصات الدراسات العلمية. لقد قرأت للراحل المرموق في علوم اللغة والدراسات الإسلامية بجامعات أوروبا محمد أركون أن علي من يريد الإلمام بالتراث العربي والإسلامي أن يتقن لغة أجنبية, لثراء الدراسات التي تجريها الجامعات الأجنبية حول تراثنا, ومواكبتها أحدث المناهج والمدارس البحثية في علوم اللغات والكلام. ويشير أركون إلي وجود فجوة في مجال الدراسات في هذا المجال المهم, وعلينا متابعته حتي نستطيع أن نسهم بشكل إيجابي وفعال في تطوير دراساتنا, في علم خاص بلغتنا وديننا وتاريخنا. وأنا متفائل بأن تتبوأ كلية دار العلوم مكانتها, لتكون منارة عالمية في مجال بحوث اللغة العربية والدراسات الإسلامية, إذا ما توافر لها الدعم الكافي, بفضل ما لديها من أساتذة كبار, وهو ما أستشعر أنه بات قريبا بإذن الله, وأحد هذه المؤشرات, ذلك المؤتمر الدولي الخامس لقسم اللغة العربية, المقرر عقده في شهر أبريل المقبل, بعنوان: الدرس اللغوي الحديث بين الواقع والمأمول, ونظرة سريعة إلي أهداف المؤتمر, يتضح لنا أنها ماضية في طريق الإصلاح ومواكبة العلوم الحديثة. ومن أبرز أهداف المؤتمر الوقوف علي آخر ما وصلت إليه الدراسات اللغوية, ونظرة مستقبلية لما يمكن أن تقدمه الدراسات اللغوية, وإظهار صور التلاقي بين الدرس اللغوي في الغرب والدرس اللغوي العربي, ومعرفة الجديد في علاقة علم اللغة بالعلوم الأخري, وإقامة اتصال بين المعنيين بالدرس اللغوي في كافة أنحاء العالم العربي والإسلامي من جهة, والعالم الغربي من جهة أخري آملين أن تكون فاتحة خير للعربية ودراستها.