هناك مقولة شائعة هي أن التاريخ أحيانا ما يعيد نفسه! بمعني وقوع أحداث معينة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في لحظة تاريخية معينة, تتشابه مع أحداث وقعت في الماضي. وليس هناك دليل يقيني علي صدق هذه المقولة, ذلك أن التشابهات في الأحداث أو في الوقائع, لا تعني بالضرورة تكرارا لمثيلاتها التي حدثت في الماضي, لأن جدل الواقع بتحولاته وتغيراته أقوي من أي تشابه.دارت بذهني هذه الخواطر حين دعاني الصديق المؤرخ المعروف الدكتور علي بركات لكي ألقي محاضرة في سلسلة محاضرات ينظمها مركز تاريخ مصر المعاصر, وذلك عن مشاريع الإصلاح الزراعي قبل ثورة يوليو1952. التأمل في نصوص هذا المشروع يؤدي إلي نتيجة أساسية هي أنه هرب من مواجهة المشكلة الحقيقية, وهي تضخم الملكيات الكبيرة لفئة قليلة من المواطنين, وحرمان فقراء الفلاحين من التملك غير أن الفكرة الرئيسية التي طرحتها تتمثل في سؤال: هل عدنا اليوم من ناحية بروز الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلي موقف شبيه بما حدث قبل1952 من بروز المشكلة الاجتماعية؟ وقد تمت دعوتي لأنني أشرفت منذ سنوات بعيدة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية علي بحث شامل عن الإصلاح الزراعي في مصر: الأصول التاريخية والجوانب الاقتصادية والاجتماعية وقد ضمت هيئة البحث بالإضافة إلي الدكتور علي بركات نفسه, نخبة من ألمع الباحثين المصريين في القانون والاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع. وقد طبع البحث الذي يقع تقريره النهائي في أكثر من600 صفحة عام1980 ووزع توزيعا محدودا, ولكنه لم ينشر ككتاب لعدم توافر الميزانية في هذا الوقت, وسأجري مباحثات مع الأستاذة الدكتورة نجوي خليل مديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لطبع البحث في كتاب, لأنه مرجع نادر لم يفقد قيمته, نظرا لأنه طبق لأول مرة في مصر مناهج علم الاجتماع القانوني التي وجهت الدراسة الميدانية التي أجريت, والتي قام بكتابة تقريرها النهائي الأستاذ الدكتور علي ليلة حين كان باحثا في بداية حياته العلمية قبل أن يصبح اليوم من علماء الاجتماع المرموقين. وقد كتب التقرير النهائي للبحث كل من السيد يسين, ودكتور علي بركات, ودكتور علي ليلة, ودكتور طه عبد العليم. وأحب للتاريخ أن أذكر أسماء أعضاء هيئة البحث التي ضمت بالإضافة لي باعتباري مشرفا الدكتور ثروت أنيس الأسيوطي الأستاذ السابق بكلية حقوق القاهرة, والمؤرخ المعروف المستشار طارق البشري, والمرحوم محمد عزت عماشة المستشار بمجلس الدولة, والدكتور علي بركات أستاذ التاريخ بجامعة المنصورة وقت إجراء البحث والدكتورة ناهد صالح أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية, والدكتورة هدي مجاهد أستاذة علم الاجتماع بالمركز, والدكتور علي ليلة, والذي كان وقت إجراء البحث مدرسا لعلم الاجتماع بكلية آداب عين شمس, وقد شارك هؤلاء جميعا في تخطيط البحث وإثرائه بآرائهم العلمية القيمة. وتم البحث في إطار برنامج القانون والتغير الاجتماعي الذي كان مشرفا عليه أستاذنا الراحل الدكتور أحمد خليفة والذي كان في هذا الوقت مديرا للمركز. *** وحين أعددت نفسي للمحاضرة التي حضرتها نخبة ممتازة من كبار المؤرخين المصريين, بالإضافة إلي مجموعة من شباب الباحثين, قررت ألا تكون شرحا قانونيا تقليديا لنصوص مشروعات القوانين التي قدمت للمجالس النيابية في مصر ورفضت جميعا, لسبب بسيط مؤداه أن أعضاء هذه المجالس كانوا جميعا تقريبا من كبار الملاك الذين يراد تقييد ملكياتهم الزراعية. وقد قدم الدكتور علي ليلة في الفصل الثاني من تقرير البحث وعنوانه قانون الإصلاح الزراعي: إرهاصاته, متضمناته, وفلسفته الأساسية عرضا دقيقا لكل مشاريع الإصلاح الزراعي التي قدمت قبل الثورة. ويتبين من هذا العرض أن أول مشروع للإصلاح الزراعي قدم في وزارة سعد زغلول بتاريخ10 يونيو1924 ودارت أفكاره الأساسية حول أن الإصلاح يمكن أن يتم إذا حدث اتجاه نحو بيع أراضي الحكومة لصغار الزراع, كما تمت المطالبة بإنشاء لجنة حكومية لإدارة الأملاك الأميرية يذكرنا ذلك بالمشروع المطروح حاليا بإنشاء هيئة حكومية واحدة للتصرف في أراضي الدولة! وفي الوقت نفسه دعا لإصلاح الأراضي البور. والتأمل في نصوص هذا المشروع يؤدي إلي نتيجة أساسية هي أنه هرب من مواجهة المشكلة الحقيقية, وهي تضخم الملكيات الكبيرة لفئة قليلة من المواطنين, وحرمان فقراء الفلاحين من التملك, وجاء بعد ذلك مشروع محمود بسيوني في9 يناير1935, ومشروع محمود كامل المحامي عام1936, ومشروع علي الشمسي باشا عام1939, ومشروع جلال فهيم عام1943, ومشروع جماعة النهضة القومية عام1944 الذي قدمه باسمها إلي مجلس الشيوخ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور وكان من أكثر المشاريع جدية وراديكالية لأن الجماعة كانت واعية بخطورة سوء توزيع الملكية الزراعية, وتثبت ذلك عبارة وردت في المذكرة التوضيحية التي صاحبت المشروع وهي إن لم يحدث إصلاح زراعي ستحدث ثورة في البلاد, ونحن نريد منع قيام هذه الثورة. ثم جاء مشروع محمد خطاب وتقدمت مجموعة من الثوريين والماركسيين بمشروع علي رأسهم محمد عبد المعبود الجبيلي وشهدي عطية الشافعي, وصادق سعد, واللجنة العمالية للتحرير الوطني. غير أن كل هذه المشاريع رفضتها المجالس النيابية المصرية مجلس النواب ومجلس الشيوخ. *** والسؤال الآن كيف اقتربت من موضوع المحاضرة؟ آثرت أن أتحدث عن المناخ السائد في المجتمع المصري قبل ثورة يوليو1952 من الناحية الفكرية والاقتصادية والسياسية, والفلسفية. من الناحية الفكرية قررت أنه بالرغم من الإبداعات الممتازة للمفكرين المصريين في هذه الحقبة, ولنقل منذ صدور دستور عام1923 حتي ثورة يوليو1952, فإن الملاحظة الأساسية هي غياب المشروع الفكري المتماسك الذي يصدر عنه الكاتب أو المفكر. وقد أورد هذه الملاحظة الثاقبة الأستاذ فتحي رضوان في كتابه المهم الذي صدر في جزءين وعنوانه: عصر ورجال وصدره بمقدمة بالغة الأهمية بعنوان روح العصر التفت فيها ببراعة إلي غياب المشاريع الفكرية المتكاملة لدي كبار الكتاب والمثقفين في هذه الحقبة التاريخية. كلهم نشروا مقالات وكتبا في موضوعات مختلفة لا يجمعها قاسم مشترك. وقد انعكس هذا القصور علي التفكير في إصلاح المجتمع المصري, فغابت المشروعات الإصلاحية المتكاملة يمينية كانت أو يسارية, وقد أدي هذا إلي التخبط السياسي. ويكشف عن هذا التخبط أنه نتيجة لمؤامرات القصر الملكي والسلطة البريطانية المحتلة, حكمت الأحزاب السياسية التي تمثل الأقلية علي حساب حزب الوفد الذي كان حزب الأغلبية الشعبية, والذي لم يحكم سوي ثماني سنوات في الفترة من1923 حتي1952. وقد أدي ذلك إلي فقدان النظام الديموقراطي والنظام الحزبي مصداقيته لدي الجماهير, وهذا أحد أسباب الترحيب بثورة يوليو1952 حين قامت. أما من الناحية الاقتصادية فقد سادت ما أطلق عليها المشكلة الاجتماعية ونعني بها الفجوة الطبقية الكبري بين الأغنياء والفقراء, ولذلك ظهرت الدعوات المتكررة للإصلاح الزراعي. *** ويمكن القول إن غياب المشروعات الفكرية المتكاملة, والذي أدي إلي غياب المشروعات الإصلاحية المتكاملة نتيجة سيطرة البورجوازية علي السياسة, والحكم ومنابر الرأي, هو الذي مهد الطريق للانقلاب الذي قام به الضباط الأحرار عام1952, والذي تحول إلي ثورة, لأن الضباط تبنوا عديدا من الأفكار الإصلاحية التي ظهرت في المناخ الثقافي المصري قبل الثورة, وحاولوا وضعها بالتدريج في إطار متماسك وتطبيقها بصورة راديكالية. فكأنهم انتقلوا من فلسفة الإصلاح التي سادت التيارات السياسية قبل الثورة إذا استثنينا الحركات الشيوعية إلي فلسفة التغيير الثوري. وقد ظهر هذا واضحا في قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر بعد قيام الثورة بأسبوعين فقط, لأنه بني علي أساس عديد من الأفكار التي طرحتها مشاريع الإصلاح الزراعي السابقة. هذا عرض وجيز للخط الأساسي للأفكار التي طرحتها في المحاضرة, وقد أبدي عدد من المؤرخين المرموقين ملاحظات متعددة, وأثاروا أسئلة بالغة الأهمية تتعلق بالتاريخ الفكري والسياسي والاقتصادي, سنحاول عرضها في مقال مقبل. غير أن الفكرة الرئيسية التي طرحتها تتمثل في سؤال: هل عدنا اليوم من ناحية بروز الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلي موقف شبيه بما حدث قبل1952 من بروز المشكلة الاجتماعية؟ أم أن التاريخ كما قررنا في البداية لا يعيد نفسه!