لم تعد آفة اللامبالاة والتسيب فى مبنى ماسبيرو مقصورة على مجرد الوقفات الاحتجاجية الفئوية أو مجرد بدء النشاط والعمل بعد الساعة الثانية عشرة ظهرًا أو أن المئات من المذيعين ومقدمى البرامج والفنيين يعملون فى الإعلام الخاص دون إذن أو استئذان أو طلب إجازة بدون مرتب بل إن الآفة امتدت إلى ثوابت وأصول المهنة ومبادئ احترام الشاشة والميكروفون، وعدم تجاوز الأصول المرعية عندما يقف المذيع أمام الميكروفون أو خلف الشاشة ليتحدث أو ليقدم أحد البرامج. فقد تعلمنا منذ النشأة أن يقول المذيع كلاما له معنى بحيث لا يخرج به إلى لون من السفه، ولا يقول إلا ما يهم المتلقى بعيدًا عن الشطط و"الشخصنة". ولكن يبدو أن مذيعى ومقدمى برامج هذه الأيام اعتقدوا أنهم يملكون الوسيلة الإعلامية التى يعملون بها، وأتحدث هنا عن ماسبيرو بالذات صاحب التقاليد والأصول التى لا يجب أن يحيد عنها أى من العاملين به، وأبدأ بما حدث صباح يوم 30 أكتوبر الماضى من خرق لهذه القواعد ففى ذاك الصباح أعتذر باكرًا مقدم الفترة الكابتن أحمد شوبير، فجاءوا بمذيع ليحل محله، وعندما دخل السيد المذيع إلى الاستوديو لم يبدأ عمله بالتنويه عما سيناقشه من موضوعات ويفتح حواراته مع المستمعين، وإنما بدأ كلامه بتوجيه شكر لسائق التاكسى الذى أقله من منزله إلى مبنى ماسبيرو حيث قال لا تصدقوه "أنا متشكر يا وليد (اسم السائق) أنا كنت قلت لك اننى سأجيبك وأشكرك على الهواء مباشرة لأنك قمت بتوصيلى إلى ماسبيرو، وأنت طبعا سامعنى دلوقتى وأنا بأقدم شكرى لك". ما قاله المذيع كان منطقيا لو أن السائق وليد أنقذ جريحا فى الشارع ونقله إلى أقرب مستشفى أو لأنه رأى طفلاً تائها يبكى فقام بتوصيله إلى أهله إلى غير ذلك من الأمور الإنسانية والشهامة التى تستحق الشكر، إن ما قام به السيد المذيع فيه سبهللة لا يعرفها ولا يزاولها الإعلام الرسمى منذ نشأته قبل ثمانين عاما، ومن أدرانا أن السيد المذيع يستطيع أن يتحدث عبر الميكروفون مع أصدقائه باعثا بتنويه للاتفاق معهم على لقاء أو سهرة أو أنه يمكن له أن يناقش بعض الأمور مع أسرته. وأثنى بما حدث على شاشة قناة النيل الرياضية يوم 5 نوفمبر الجاري، عقب إنهاء مباراة لكرة القدم فقد رأيت مقدمة برنامج الاستوديو التحليلى للمباراة أن نبدأ بتعزية رئيس القناة فى وفاة والدته، وأنها وأسرة الاستوديو تتقدم له بالعزاء، وأنها ستعلن للمشاهدين عن موعد تشييع الجنازة، ومكان تقبل العزاء، فى نفس هذا اليوم كانت مصر تئن ألما وتنزف دما حزنا على شهداء أتوبيس محافظة البحيرة، فقامت سيادتها بالتعزية قائلة وبالطبع لا ننسى أن نعزى الوطن فى حادث محافظة البحيرة! هكذا يوظف مذيع الشباب والرياضة الميكروفون بشكر وليد سائق التاكسي، وهكذا توظف مذيعة قناة النيل والرياضة شاشة القناة لتعزية رئيس القناة فى وفاة والدته، وهو أمر يدعو إلى الشعور بالألم على قيم تكاد تتمحى من قاموس الإعلام الرسمي. وما حدث يقودنى إلى ذكريات تظهر مدى احترام الأجيال السابقة لمهنة الإعلام، ولكن يبدو أن ذلك أصبح موضة قديمة، وأذكر أن أستاذنا الراحل حافظ عبدالوهاب، وكان واحدًا من أبرز نجوم الإذاعة قال كلمة دون قصد منه، ولأنه اعتقد أنه أغلق الميكروفون فكان العقاب صارما حيث نقل على الفور وهو بدرجة المذيع الأول إلى قسم الموسيقى والغناء، وقد حدث لى شخصيا أن الميكروفون كان به عطل هندسى رغم إغلاقه، ولم أتفوه إلا ببضع كلمات توديعا للضيف الذى كان قد انتهى من إلغاء حديث له فكان التأنيب الشديد شفويا لشخصى والجزاء المادى لرئيس غرفة المراقبة الهندسية ولمهندس الصيانة، كان المذيع منا إذا أخطأ يرفع من جدول المذيعين مدة تتناسب مع مقدار الخطأ الآن يشكر المذيع سائق التاكسي، وتعزى مقدمة البرنامج مدير القناة فى وفاة والدته، ولا رقيب أو حسيب كان الضبط والربط وحب العمل سمة العمل فى ماسبيرو الآن تسود الفهلوة والسبهللة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.