تحذير مهم! علي كل من يستطيع أن يمنع نفسه من المرض ان يجاهد حتي يحافظ علي موقفه ويتمسك به حتي آخر قطرة وعلي كل من يشاوره عقله بأن يمرض ان يخاطب عقله بالحجة والمنطق ويستعطفه ويبوس ايده ورجله ان يرفع درجة مناعته حتي آخر نفس وان فشلت كل المحاولات والجهود, ووقع الواحد منا ضحية مرض ما, فعليه ان يجاهد ويحارب بكل السبل والطرق ان يشفي منه شفاء ذاتيا, أو بأقل تدخل طبي ممكن, لأنه لو لم يفعل, فإن العاقبة وخيمة جدا جدا. والمرض بالطبع حدث لا يدعو إلي السعادة او الفرح, وإن كان يستدعي الكثير من الإيمان, والتسليم بقضاء الله وقدره, وهذا في حد ذاته شيء ايجابي, وكم من مرة نسمع فيها صديقا او قريبا او جارا او حتي شخصا قابلناه بالمصادفة البحتة علي محطة الاتوبيس, او في موقف الميكروباص وهو ينطق بالحكمة ويحكي عن كم العبر والدروس المستفادة من محنة مرض ألمت به أو بأحد الأقارب, فلحظات الشدة تدعو الكثيرين منا إلي فلسفة الأمور, ومنطقة الأحداث والخروج بمجموعة من الفوائد التي تقوم بدور المعالج النفسي في مثل هذه الازمات والشدائد. وأغلب الظن اننا المصريون بغض النظر عن ديانتنا او مستوانا الاجتماعي او الاقتصادي او التعليمي نلجأ إلي فلسفة الأمور, سواء من منظور ديني او فلسفي, كلما ضاقت علينا الدنيا وتكالبت علينا المصائب صحيح اننا سرعان ما ننسي هذه الفلسفة, ونتحلل من عباءة الدين التي تسترنا وتعطينا دفعات نفسية وعاطفية بالغة القوة تمكننا من الاستمرار, فما أن ينقشع المرض سواء بالعلاج او بالانتقال إلي عالم آخر ابدي, حتي نعود إلي سباق عهدنا من عشوائية التفكير ومادية التفاصيل. واعترف في هذا الصدد بأنني عشت طيلة سنوات عمري السابقة حياة مدللة, ولا اقصد بالتدليل هنا الثراء الفاحش او المعاملة الخاصة او الرفاهية المطلقة, بل أقصد انني ولله الحمد لم أتعرض لصدمات نفسية عنيفة او مواقف حياتية تتطلب مني سرعة التصرف في مسائل مصيرية لا تخصني وحدي, بل تخص من حولي ممن أحبهم وأدين لهم بوجودي في الحياة. فرغم المواقف الصعبة التي مررت بها في مراحل مختلفة, سواء اثناء اقامتي وحدي في بريطانيا لسنوات طويلة, أو اثناء دراستي الجامعية, او في اتخاذ قرارات حياتية بالغة الأهمية, إلا أن كل ذلك في كفة والمواقف المستعصية التي تواجهنا وتتطلب منا التدخل لصالح شخص آخر هي الأصعب والأثقل وطأة, فالقرار الذي تتخذه في حياتك وتعلم جيدا انه لن يؤثر الا عليك سواء سلبا او إيجابا, اوالتصرف الذي تقدم عليه, وقد يعرضك للخطر, أو ما شابه هي قرارات وتصرفات لن تضير آخرين, وبالتالي تمتلك رفاهية الاختيار وتحمل تبعاته دون أن تحمل فوق كتفيك وزر آخرين قد يضاروا بسببك. وأعود إلي المرض وسنينه, فقد تعرض والدي الحبيب لأزمة مرضية عنيفة قبل أيام, وأدي ذلك إلي دخولي معترك المستشفيات, والعلاجات, واتخاذ القرارات, ومطاردة الأطباء واسترضاء الممرضات, وقائمة طويلة جدا من ضرورات رحلة المرض والبحث عن علاج. وحتي لا أوجع رءوسكم, وأكيد هي موجوعة اصلا, بتفاصيل ما مررنا به وحدث معنا, اسمحوا لي ان اشارككم في عدد من الملاحظات التي هي في الأغلب ما يمر به كثيرون غيري, وما سيمر به ملايين غيرنا, ولكن قد تفيد المشاركة احيانا في رفع عبء الهموم الملقاة علينا, فمجرد معرفتنا ان احدا غيرنا يعاني المعاناة نفسها, فهذا من شأنه ان يخفف عنا, ولكن من شأنه ايضا ان يؤكد لنا مرارا وتكرارا ان فيه حاجة غلط! الاستقبال والاستعداد تخيل أن شخصا ما أصيب بوعكة فجائية تستدعي نقله إلي أقرب مستشفي لتلقي علاجا سريعا بغرض انقاذ حياته ويشاء العليم القدير أن تتم عملية النقل بسهولة ويسر نسبيين فلم يكن سكان ورواد مصر الجديدة كلهم في الشارع الذي يسكن فيه في هذا اليوم, لذا نجحت سيارة الاسعاف في الوصول إلي الهدف في وقت معقول, ونقلته من ثم إلي المستشفي الخاص الاستثماري في وقت وجيز. ولكن ما ادراك ما المستشفي الاستثماري صاحب الصيت الذي يجذب المرضي من شتي أرجاء مصر, واحيانا من خارجها! المريض يحتاج لعمل أشعة عاجلة, لكن فني الاشعة ليس موجودا, يحاولون العثور عليه, والحمد لله ربنا ستر وتم العثور عليه, وبالفعل تم عمل الأشعة, لكن يافرحة ماتمت, اذ لا يوجد طبيب لقراءة الأشعة لمعرفة الخطوة المقبلة في طريق العلاج السريع, فأهل المريض يشكون في اصابته بجلطة دماغية, وهو ما قد يستدعي تدخلا علاجيا سريعا جدا لإنقاذ حياته! تمر الثواني, ومن بعدها الدقائق ثقيلة جدا, وهنا يقرر احد الأقارب نقله إلي مستشفي آخر, في مثل هذه الحالات, ينبغي ان يكون هناك من هو قادر علي اتخاذ قرار حاسم, حتي وأن بدا غير منطقي او خطرا او مقلقا, وبالطبع يتم تسديد فاتورة العلاج التي بلغت نحو500 جنيه, ومازال اهل المريض غير متأكدين من ماهية هذا العلاج, وفي اللغة الانجليزية يستخدمون عبارة ساخرة في مثل هذه المواقف هي شكرا علي لا شيء!. رحلة الإسعاف كم مرة سمع ورأي احدنا سيارة إسعاف تصيح وتولول في الشارع وسائقها ومساعده يكادان يتوسلان لكل من حولهما من سائقي أجرة وملاكي وميكروباص وميني باص وحكومة وشرطة ان يفسحوا لهما الطريق, لكن هيهات! وهذه الظاهرة تحتاج إلي بحث متأن من قبل متخصصين وعلماء وخبراء, ولا مانع من استدعاء خبراء اجانب من بلاد بره لفهم هذه الظاهرة العجيبة الغريبة المريبة! فتصرفات قادة السيارات في الشارع ردا علي سارينة سيارة الإسعاف غير مفهومة وتكاد تصل إلي حد اللامعقوليزم, فهناك من يعطيها الطرشة, فأذن من طين والأخري من طمي وعجين واسمنت, تنظر إلي وجهه وهو متنبل امام سيارة الإسعاف فتجده محلقا بعينيه في اللاشيء! فالسارينة لا تعني له شيئا, وسيارة الإسعاف سواء كانت باللونين الأحمر والأبيض القديمين, أو اللون البرتقالي الجديد لا تمثل له الكثير, كما أن توسلات السائق والمسعف الجالس إلي جواره ليأخذ جانبا حتي يتمكنا من المرور أقرب ما تكون إلي زقزقة العصافير أو قعقعة رماح الجاهلية. فهي لا تسبب له أي مشكلة. وهناك من يتعامل مع أجواء الإسعاف باعتبارها خطرا يهدد رجولته. وهو في هذه الحالة يتعامل مع الإسعاف من منطلق يا أنا يا هي. فمحاولة سائق الإسعاف تخطيه إهانة غير مقبولة, وتوسل المسعف له بأن يفسح الطريق سوء تقدير من الأول لشخص الثاني. لذلك يركز السائق جل جهده في أن يقطع الطريق علي هذه الإسعاف اللعينة. ونماذج التعامل المصري الصميم مع سيارات الإسعاف التي تنقل ذوينا وأهالينا وأقاربنا وأصدقاءنا وأحباءنا لعلاجهم السريع أكثر من أن تعد أو تحصي. لكن الأكثر إثارة للأسف هو تعامل بعض رجال المرور الذين يتصادف أحيانا وجودهم في الشارع بغرض تنظيم المرور. فكثيرون منهم لايجدون في سارينات الإسعاف ما يستدعي تدخلهم, سواء بفتح الإشارة الحمراء, أو بالتلويح للسيارات لتأخذ جانبا, أو أي تصرف من شأنه أن يظهر اهتمامهم بتلك السيارة وأهمية إتاحة الفرصة لها لتجري بأقصي سرعة تنقذ روحا. التأمين غير مأمون وأعود إلي تجربة المرض نفسه في مصر. فمن الزاوية النظرية, هناك ملايين المصريين ممن تشملهم الرعاية الطبية تحت مظلة التأمين الصحي. لكن أجزم وأقسم وأؤكد أن من يلجأون إلي هذه المظلة لتقيهم شر المرض هم من غيرالقادرين علي العلاج خارج إطار هذه المظلة التي أشك أن يقبل أحد الكبار سواء من الوزراء أو وكلائهم أو نوابهم أو مساعديهم أن يتلقوا هم وأبناؤهم وأفراد أسرهم العلاج في هذه المستشفيات. وبالتالي فإن مرض الفقراء ومتوسطي الحال يختلف كثيرا عن علاج الأغنياء والموسورين. فمن لا يملك يجد نفسه أمام أحد خيارين إما أن يمتثل للتأمين الصحي, والعمر واحد والرب واحد, أو أنه يفضل أن يموت موتة ربنا. والحقيقة أن الإثنين لا يختلفان كثيرا, باستثناء نوع الموتة. وهناك بيننا من لايندرجون تحت بند هذا أو ذاك, وهم في أغلب الأحوال منقسمون إلي فئتين: الأغنياء جدا والفقراء جدا. فالأغنياء جدا غالبا ما يجدون طريقهم بسرعة البرق والذي يمر من خلال الجوازات في مطار القاهرة الدولي. وكذلك الحال بالنسبة للفقراء. فقد يزيد حزنهم علي قريب ما لأنه مريض, ولكنهم يجدون طريقهم هم كذلك بسرعة البرق لكنه يمر من بوابات المساجد والكنائس حيث الصلوات والدعوات. أما الطبقة المتوسطة, فهي تجد نفسها في حيص بيص. فالمنتمون إليها كانوا يعتقدون أنهم لو مرضوا, فإن العلاج حتما سيكون متوافرا لهم, فهم ليسوا معدمين ليشكوا للحظة أنهم يتمكنون من استكمال العلاج بسبب ضيق ذات اليد الذي يعتقدون أنه يقتصر علي الفقراء. لكن ضيق ذات اليد أثبت أنه قادر علي التمدد والتبحر والتوغل ليصل إلي منتصف الهرم الاجتماعي. وها نحن في انتظار قانون التأمين الصحي الجديد الذي سبقته زفة إعلامية وصدمة اجتماعية وبلبلة نفسية غير مسبوقة. وإلي أن يصدر, سنضطر أن ننتظر ونهرع للعلاج في المستشفيات الخاصة أملا في خدمة أفضل أو حياة أطول للمريض, وإن كان ذلك في علم الغيب. ورغم كل ما قيل, فإن طبيعة الحياة ومجريات الأمور في مصر مازالت تعتمد علي مبدأ الاستمرارية. فمازلنا نمرض, وما زلنا ننتظر سيارة الإسعاف, ومازال السائق يتعارك مع ذباب وجهه أملا في إنقاذ المريض, ومازال المحيطون به يثبتون له أنهم الاسرع والافضل والأولي بالمرور, ومازالت مستشفيات كبري لها شنة ورنة تفتقد إلي بديهيات الانقاذ واستقبال المرضي, لكن أملنا كبير. علي طريق الإسماعيلية ومادمنا ذكرنا الأمل, فلابد أن تكون هناك تحية خاصة جدا وكبيرة جدا إلي المركز الطبي العالمي, هذا الصرح الإنساني قبل أن يكون طبيا الواقع علي طريق القاهرةالإسماعيلية الصحراوي. والحقيقة أن هذا المركز الذي تلقي فيه والدي العلاج أعاد لي بعضا من أمل كنت قد قاربت علي فقدانه بالكامل, الأمل في عمل جيد يتم تنفيذه بمهنية وحب.. الأمل في خدمة مميزة يتم تقديمها بدقة متناهية دون انتظار كلمة شكر أو مكافأة الأمل في أن نكون قادرين علي عمل خطة محكمة نسير وفقها بعيدا عن العشوائية التي دمرتنا أو كادت, الأمل في أن يكون غدا أفضل من اليوم. وليس مبالغة لو قلت أن ما رأيته وعايشته بنفسي في هذا المكان أقرب ما يكون إلي مستشفيات عدة ترددت عليها في بريطانيا. قد يكون هناك العديد من المستشفيات في مصر التي تفخر بما لديها من معدات طبية حديثة, لكن قليلة فقط هي ما تملك نظاما صارما, يتم تنفيذه بدقة, وتخصصا حاسما يجعل سير العمل أمرا سلسا. كلمة السر تكمن في الادارة. فلو كانت الإدارة تملك القدرة علي التخطيط, والإصرار علي التنفيذ, وعدم التهاون في الأداء واعتبار كل تفاصيل العمل كبيرها وصغيرها أمورا دقيقة وحيوية, فإن الجميع لن يمتلك سوي الالتزام والعمل الجاد. ولا أتذكر أنني دخلت مستشفي في مصر دون أن يكون هناك مظروف ورقي متخم مخصص للبقشيش, لكن في المركز الطبي العالمي, يعود المظروف من حيث أتي دون المساس به. هذه الإدارة الفذة علي مستوي المستشفي أثبتت تماما أننا قادرون علي التميز والإنجاز والامتياز إذا أردنا!