لم يكن الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة المصري بطرس غالي مجرد شخصية عابرة في تاريخ الأممالمتحدة, فالولاياتالمتحدة كانت المعارض الأول لوجوده في المنظمة الدولية لفترة ثانية, ويبدو أن المحافل العابرة للقوميات كانت ايضا وراء ابعاد غالي عن الأممالمتحدة لكي لا يفسد مخططاتها البعيدة المدي, هذا الأمين العام للأمم المتحدة, المصري, كان يري وهو علي رأس المنظمة الأممية أن الدول المستقلة اختفت من العالم تقريبا, وإذا كانت الولاياتالمتحدة بمنظريها الذين فرقعت تنظيراتهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, سعت للسيطرة علي العالم بمنظومة عالمية جديدة ذات قطب واحد, فمساعي المحافل العابرة للقوميات كانت أبعد, لأن الولاياتالمتحدة نفسها جزء لا يتجزأ من العالم وأحد الأهداف المقصودة مثل بقية الدول. لقد اصبح الجميع في غاية الذكاء والألمعية, والتساؤلات المصحوبة بابتسامات وإيماءات من قبيل: من وراء ويكيليكس؟ ولماذا وما الهدف و.. و؟ تتوالي بينما الموقع مستمر في نشر مختلف الوثائق والمواد, إن كل المؤشرات تؤكد أن جهات مهمة تقف وراء موقع ويكيليكس. كما ان تحليل ما ينشره الموقع يؤسس للاعتقاد بأن طرفا ما قام تحت إشراف قيادة مرهفة الحس بترتيب وتصنيف هذه المعلومات حسب مهام وأهداف معينة, وإذا أمعنا النظر في طابع المعلومات التي نشرت سنلاحظ اتجاهات واضحة ومحددة, البعض يري فيها أجهزة استخبارات, والبعض الآخر يلمح إلي حكومة الولاياتالمتحدة المستفيدة علي المدي البعيد من فضح كل أنظمة العالم, بما فيها الأمريكية, وذلك من أجل السيطرة التامة علي العالم. غير ان رئيس أكاديمية القضايا الجيوسياسية الجنرال المتقاعد ليونيد ايفاشوف, والذي شغل منصب رئيس إدارة التعاون العسكري الدولي في القوات المسلحة الروسية في تسعينيات القرن العشرين, يؤكد أن العملية التي نفذت من خلال الموقع هي محاولة من قبل محافل عابرة للقوميات, وبالدرجة الأولي شركات مالية دولية, للحط من دور الدولة في النظام العالمي القائم, وتسطيح مكانتها إلي حد وضعها تحت السيطرة التامة فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟ لقد أظهرت تلك الأطراف كيفية القيام بذلك من خلال العمل علي تشويه سمعة النخب, وبالذات الحاكمة منها في المقام الأول, وكما نعرف فليس ثمة أسلوب أكثر فعالية من أسلوب التشهير, وهنا قوي تسمح لنفسها الا تقيم وزنا حتي للولايات المتحدة نفسها, وهكذا فمن الصعب ان نتجاهل حقيقة انه علي رأس قائمة المتصدرين في عالم اليوم مايسمي المحافل العابرة للقوميات التي تسيطر كحد أدني علي80% من الموارد المالية العالمية وتتعطش إلي التحكم في العالم كله, والمثير هنا ان الولاياتالمتحدة اليوم أصبحت دولة خاضعة كغيرها من الدول, مع فارق يتلخص بالسماح للأمريكيين باختيار رئيسهم, والقيام ببعض الأعمال البسيطة حسب رغباتهم, إن تصرف ويكيليكس, حسب رؤية الجنرال الروسي, جزء لا يتجزأ من عملية جيوسياسية عولمية ينجم عنها انتقال مركز القوة من الدول إلي الشركات العابرة للقوميات, ومن الواضح أن هذه العملية لن تنتهي بما قام بها موقع ويكيليكس علي الرغم من ان دور الدولة قد تضاءل كثيرا, فمن يتعرضون اليوم لحملات التشهير( وهم ليسوا أبسط الناس في أوروبا وآسيا وإفريقيا) سيتصرفون بحذر, وسيتجنبون الخطوات والتصريحات الحادة, الجديد هنا, هو أن هؤلاء يدركون بما لا يدع مجالا للشك انهم باتوا في شبه تبعية مطلقة لا لمجرد موقع الكتروني, بل لبنية أشد قوة وجبروتا وتعطشا للسلطة المطلقة بكثير. إننا نري اليوم حالة من تصاعد الصدام بين الدول, وبين الحضارات, وبين الطوائف, وبين الشعوب والأنظمة السياسية, ومن الممكن اللجوء إلي التفسيرات الماركسية لوضع لوحة كاملة لما يحدث, ومن الممكن ارجاع ذلك إلي تنظيرات انهيار الدولة القومية أو صدام الحضارات, ولكن هناك تفاصيل لابد من الوقوف عليها لكي تكتمل الصورة حسب منهج التفسير هذا أو ذاك. من الواضح أن وراء هذه العملية جهة مالية عابرة للقوميات تضم حسب بعض التقديرات16 مركزا ماليا عالميا وأكثر من1000 بنك متعدد الجنسيات, هذه الجهات والبنوك تملك طاقات تحليلية جبارة تتنبأ باتجاهات الرأي العام وتطور الأحداث, وفي الوقت نفسه لاتتواني عن أساليب التشهير التقليدية في وسائل الإعلام والاوساط المالية والاجتماعية والمهنية, بل ووصل مهندسوها إلي أبعد من ذلك, ألا وهو ما يجري الآن علي موقع ويكيليكس كخطوة أولي علي طريق التجديد في مجال التشهير والفضائح. فضائح ويكيليكس كشفت الوجه الحقيقي للولايات المتحدة دبلوماسيا وعسكريا وانسانيا, وكشفت ايضا كيف تنظر النخب السياسية لا إلي النخب السياسية في الدول الأخري فقط, بل وأيضا إلي شعوبها والقوي السياسية المعارضة والموالية علي حد سواءفي بلادها, الأمر مؤسف ومحزن ومثير للسخرية في آن واحد, ذلك ان وقود كل هذه الصراعات, سواء بين الطغم المالية العابرة للقوميات أو بينها وبين الأنظمة السياسية او بينها وبين الدول أو حتي بين النخب في البلد الواحد, هوالناس, الناس هنا هم المادة المتصارع عليها, ومن السذاجة والعبط ان تتصور بعض الأنظمة السياسية, وبالذات الاستبدادية, انها قادرة علي إغراء الناس بعدم تصديق ما ينشره ويكيليكس معولة علي أن المحافل المالية العابرة للقوميات ستكون أشد منها صلفا واستبدادا استعبادا واستبعادا لنفس هؤلاء الناس. الآن انفتحت قناة جديدة للتحالفات والاصطفافات الإقليمية والدولية, فبدلا من أن كانت هذه الاصطفافات تتشكل في مواجهة بعضها البعض لفرض النفوذ والتأثير وإجراء استقطابات سياسية واقتصادية وجيوسياسية معينة, أصبحت المهمة الأكبر والأخطر أمام الجميع, علي الرغم من صحة الكثير من وثائق ويكيليكس, هي التصدي للمحافل والطغم المالية العابرة للقوميات, هنا قد تسقط راية الارهاب اي أن مرحلة ما يسمي, لو ماكان يسمي بالارهاب الدولي أصبحت في خبر كان, لأنها كانت مجرد مرحلة عابرة ضمن مراحل أخري تالية, المهمة الآن تتلخص في منع تعزيز قوة المنافس الرئيسي الذي قد يتمكن بمرور الوقت من تدمير النظام العالمي الحالي, وبالتالي قد يظهر نمط جديد من الصراعات يتسم بالمواجهة بين الحضارات الاثنو ثقافية التقليدية والجهات المالية العابرة للقوميات وهذا يعني نظاما عالميا جديدا لن تلعب فيه الدول أدوارها السابقة, هذا حسب السيناريو المتفائل والمستبعد نسبيا علي الأقل خلال القرن الحالي, اما السيناريو الأسوأ, فهو أن تسير الأمور علي ماهي عليه, وتستأسد الأنظمة السياسية المستبدة علي شعوبها, بينما تواصل الأنظمة الديمقراطية قيادة قطعانها إلي المجهول ومغازلة محافل وطواغيت المال العابرة للقوميات كما غازلت الإرهاب.إن من صنع الإرهاب واستخدمه عولميا, هو نفسه الذي صنع المحافل العابرة للقارات, ولكن رذا كانت بعض خيوط اللعبة الأولي في يد من يدأها, فمن الصعب ان نتصور ان جميع خيوط الثانية في يد أي منظومة سياسية, حتي وإن كانت الولاياتالمتحدة, إن الحديث عن الأنظمة الفاسدة والاستبدادية يصبح الآن دون اي معني في إطار هذه اللعبة, لأن هذه الأنظمة مجرد مفعول به في لعبة أكبر من الفساد والاستبداد وتحالف التخلف السياسي والانتهازية مع رأس المال الغبي.