وصف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل, ما يجري علي سطح المشهد العالمي حاليا, بأنه يعكس سقوط نظام قديم هو بالفعل يتداعي الآن ويسقط, وقيام نظام جديد لم تتشكل ملامحه بعد, مشيرا إلي أن العالم يقف الآن أمام لحظة وصفها بأنها ملتبسة جدا, لا يمكن تحديد الخطوط فيها, فنحن من جهة أمام نظام دولي قديم يقع, ومن جهة أخري أمام نظام جديد يقوم, الأول له أسباب قوة والثاني له حقائق قوة, بينما نحن في لحظة توازن بين الاثنين. وقال الكاتب الكبير إن النظام القديم الذي استمر لعقود من الزمان, فقد صلاحيته وآن الأوان لظهور نظام جديد, له مواصفات غير محددة, مشيرا إلي أن العالم العربي عليه أن يسعي بقوة في هذه اللحظة, حتي يلحق بالكاد بالسبنسة, وإلا سيكون خارج العصر, في عالم مليء بالمتغيرات, وأضاف هيكل: نحن لا زلنا خارج السباق, لكني أتمني من العالم العربي في هذه اللحظة أن يوقف تدهوره. وكان الكاتب الكبير يتحدث ليلة أمس في الحلقة الثالثة والأخيرة, من سلسلة حواراته مع فضائية سي بي سي, عندما قال إن المنطقة العربية لايزال بوسعها التعلق بالسبنسة العربة الأخيرة في القطار- لافتا إلي دور حالي لمصر مهم جدا ينبغي القيام به في هذا السياق, عن طريق مزج قوة مصر الناعمة بقوة النموذج, مشيرا إلي أن أم كلثوم كانت أكبر فرقة في كتيبة قوة مصر الناعمة في ستينيات القرن الماضي. وقال الكاتب الكبير إن المنطقة العربية نسيت علي مدي العقود الماضية عالمها, وتحولت إلي تابع, والمفارقة أن هذا الدور أعجبها, وأضاف هيكل متعجبا: هل من المعقول أن نهمل دولة مثل الصين بهذا الشكل, فيما أكثر الدول اتصالا بها الآن هي إسرائيل, التي تتصل بالهند أيضا, بعدما ورثت مواقعنا التي مهدناها قديما, لكن مشكلتنا أننا اختزلنا العالم كله في باريسولندن. وقال هيكل إن المنطقة العربية تعاني منذ زمن بعيد من قضية أساسية, وهي أن ثرواتنا دائما ضائعة, ولفت الكاتب الكبير إلي قصة الملك إدوارد السابع ابن الملكة فيكتوريا, الذي تولي العرش في السعبين من عمره, وكيف دخل في شجار مع الخديو إسماعيل حول غانية في باريس, كانت تدعي نانا, جاء بها إسماعيل إلي مصر, ولكي يغريها بالبقاء منحها25 ألف فدان, وقد كان نابليون الثالث يحبها أيضا, لكن ما حدث أن السيدة أقامت في مصر ليومين أو ثلاثة, ثم غادرت بعدما أخذت وثيقة الأرض من الخديو, قبل أن ترسلها لاحقا للبنك وتحولها إلي ذهب, وقال هيكل إن هذا النموذج لايزال متكررا في الثروة العربية, مشيرا إلي أن المال يصنع القوة إذا عرفنا كيف ننفقه, ويمكن أن يصنع المعجزات إذا ما أحسن استخدامه. وقال الكاتب الكبير إن دور العالم العربي انحسر محليا, عندما تصورنا أننا مأمورون بهداية الآخرين, وأننا مسئولون عن الجهاد, وأن أمريكا هي الحل, فقدنا ميزة الاعتماد علي أنفسنا, وعلي متابعتنا للزمن ومحاولة فهمنا للتطورات, مشيرا إلي أننا أصبحنا في حاجة ماسة إلي ثورة ثقافية علي غرار الثورة الثقافية التي يشهدها العالم الآن, مضيفا: نحتاج ثورة ثقافية تضع لي صحيح الدين, وصحيح التاريخ دون تزييف, وصحيح العلم. وقال الكاتب الكبير إن من يقود هذه الثورة الثقافية, سيكونون هؤلاء الذين يملكون الجسارة, ولا يناقضون الدين في نفس الوقت, مشيرا إلي أن المشكلة باستمرار تتمثل في أن ثمة نوعا من الاجتراء من بعض المثقفين علي الدين, وبخاصة من هؤلاء الذين يتصورون أنفسهم أنهم مصلحون, وهو أمر لا لزوم له. وأوضح الكاتب الكبير أن هذه الثورة الثقافية, يجب أن تنطلق من فهم العصر والزمان والعقائد علي نحو صحيح, مشيرا إلي أن هذا هو السبيل الوحيد لأن نجد لأنفسنا مكانا في العالم الجديد, وأضاف: نحن والعالم الجديد مثل من يستلقي علي منضدة جراحة, دون أن نعرف ما بنا, ولا نعرف ماذا يصنع الطبيب, نحن نمتثل له فقط تحت تأثير المخدر, وقال الكاتب الكبير إن دور الدولة في هذه الثورة الثقافية المطلوبة ينطلق من ضرورة تشجيع مراكز البحث العلمية, حتي يمكن لنا أن نطل علي العالم بعيوننا, وليس بعيونهم, مضيفا: نحن نحتاج إلي تقنين علاقتنا بالعالم, ونحتاج لإطلاق حريات الاستكشاف, دون أن يكون هناك قائمة ممنوعات, لأن الكارثة الكبري هي الهروب من الحقيقة. وقال هيكل إنه يأمل في أن لا تقف الدولة المصرية العصرية الحديثة التي يتم بناؤها الآن, عائقا بين المواطن وبين الحقيقة, وأضاف: لا نريد أن تسبق المحظورات المطلوبات, لأن هناك فواتير كثيرة مستحقة للزمن والعصر. وعرج الكاتب الكبير في حواره مع الإعلامية لميس الحديدي إلي المشهد في الجمعية العامة للأمم المتحدة, مشيرا إلي أن المشهد كان يقول بوضوح إننا أصبحنا في وضع في منتهي الخطورة, نجري خلف قطار يتحرك في محطة نسميها محطة العصر, وإذا لم نلحق بالعربة الأخيرة علي الأقل, نكون قد خرجنا خارج الزمن والتاريخ, علي الأقل لمائة عام أخري. واضاف الكاتب الكبير إن نتيجة الاستفتاء انفصال أسكتلندا عن إنجلترا, كان يؤشر لشيء ما انكسر في المملكة المتحدة, مشيرا إلي أن ما جري سوف يقود إلي تطورات كبيرة جد, ربما كان من أهمها أن المملكة المتحدة قد لا تبقي في البحر الأبيض, ولفت هيكل إلي ما ذكره هنري كيسينجر في كتابه الأخير, عن سقوط فكرة الدولة الوطنية داخل الحدود المستقلة, كما تصورها مؤتمر ستفاليا في القرن السادس عشر, مشيرا إلي أن واقع القوي يتغير, والدولة المستقلة سقطت لأنها أصبحت مكشوفة بالكامل, أمام نظام عالمي جديد, به الفن والاتصال والرياضة وأسواق المال العالمية. وأوضح الاستاذ أن فكرة العولمة تعكس حقائق التطور في العصر الحديث, مشيرا إلي أنه لا يمكن نسب تطورات العصر لبلد بعينه, فكل العالم شارك فيه, صحيح أن دور الأمريكان كان مهما, لكن هناك شعوبا كثيرة ساهمت في هذا العلم والمعرفة وشيوعهما, وقد أدي دخول دول كثيرة في سباق التطور إلي سقوط الدولة بشكلها القديم, لأنها لم تعد قادرة. وقال الكاتب الكبير إن النظام العالمي الحالي يسقط, لأنه أصبح نظاما يجافي حقائق القوي في العالم, ولا يمكن أن يكون هناك نظام يحكم العالم, إلا إذا اتسق مع حقائق القوة فيه, وعرج هيكل علي اعتماد الأممالمتحدة في العام2009 لما يسمي بحق التدخل للحماية بعد ما جري في رواندا من مذابح, مشيرا إلي أن هذا الإقرار يمكن استخدامه كوسيلة من قبل الدول الكبري, وقال هيكل: المبادئ في النهاية لها سلطان أدبي, لكن القوة تحتاج باستمرار إلي غطاء أخلاقي, لذا لم يكن من المقبول أن يقال أن الدول التي شاركت في الحرب العالمية الأولي, تشارك من أجل المستعمرات, لكن ما قيل أن هذه الحرب كانت من أجل تحرر الشعوب. وأوضح الكاتب الكبير أننا إذا ما أردنا المشاركة في قيادة العالم الجديد, فإن علينا أولا أن نتخلص من النظرة الأحادية للأشياء, فضلا عن الاهتمام بالتكنولوجيا, إضافة إلي إطلاق القوي الناعمة, في ظل استحالة الحروب, وقال هيكل إن كل بلد سوف تقاس قوته خارج حدوده, بقوته الطوعية التي لا يتم فرضها بالقوة العسكرية, ولا بالضغط الاقتصادي وإنما بقوة النموذج, وأضاف هيكل أن شركتي جوجل وآبل اليوم أصبحتا أقوي من الدولة الأمريكية, مثلما أصبحت السي إن إن أقوي من الخارجية الأمريكية. وقال هيكل إن الهند قد تلعب دورا ما في النظام العالمي الجديد الذي سيضم بعض القوي الكبيرة والمؤثرة وليست الحاكمة, مثل الصينوألمانياوأمريكا, مشيرا إلي أن بريطانيا سوف تبقي كقوة مؤثرة في النظام الجديد, رغم تقلص حجمها, مشيرا إلي أن بقاءها سيكون بقوة إمبراطورية اللغة والثقافة وهي موجودة في كل مكان, خصوصا أن العلوم كلها باللغة الإنجليزية, وهي لغة في سبيلها لأن تصبح لغة العالم الجديد الذي لا يزال ينتظر المديرين. وقال الكاتب الكبير إن ملكية هذا العالم ستكون لشيء ما أكبر من الدول, يتمثل في الكيانات الكبيرة والرأي العام والقوي الناعمة وعالم الرياضة والفن, وجميعها كيانات عملاقة لقوي كبري قادمة ستدير العالم. وقال هيكل إن مشكلتنا في العالم العربي تتمثل دائما في أن كل حاكم جاء ليمحو ما قام به سلفه, ولم يبن عليه, بينما دولة مثل ألمانيا, بنيت قوتها عبر خمسة مستشارين كبار, مشيرا إلي أن عصر الدبابات والأساطيل, أو احتكار التكنولوجيا قد انتهي, وأن ما سوف يحكم العالم الجديد هو قوة التقدم. وأوضح الكاتب الكبير أن الثورة التي تراكمت وأدت إلي انهيار العالم القديم, هي التي سوف تقود العالم الجديد, عن طريق خلق أوضاع جديدة, مشيرا إلي أن الإعلام والفن كانا من أهم القوي الناعمة في مصر, عندما لعبت الدور الأكبر في قيادة حركة التطور في إفريقيا, فضلا عن الدور الذي لعبه التعليم من خلال جامعة القاهرة, وما صدرته من طلبة في المنطقة, حتي السياحة في الإسكندرية كانت قوة ناعمة, وفي العالم الجديد القوي الناعمة سوف تلعب أكبر دور خارج حدودها. في ختام حواره أمس روي الكاتب الكبير قصة في غاية الدلالة, عندما لفت إلي سلسلة لقاءات جمعته والمفكر الكبير الراحل إدوارد سعيد في لندن, بصحبة السفير الأخضر الإبراهيمي, للبحث عن إجابة لسؤال متي يمكن للعرب أن يعودوا؟ وقال هيكل: تعددت اللقاءات عن مستقبل العالم العربي, دون جدول للأعمال, حتي جاء إدوارد في اليوم الرابع ليقول فضوها سيرة.. مافيش فايدة, فسألناه لماذا؟, فقال السبب الأول أن بعض مظاهر ما يجري في الوطن العربي, يظهر أننا ضد التنوير, والشيء الثاني أن سعر البترول غطي علي قيمة المعني, نحن نتحدث كلاما لا أعتقد أنه سيجلب فائدة, وأضاف هيكل: كنت متحمسا لأننا كنا نتحدث دون قدرة علي التأثير, بينما كان يتحدث هو عن ضرورة وجود المفكر بجوار السلطة.