حقا انها النزعة الفوقية, التي لا تعبأ بضيق الأنظمة ولا بغضب الشعوب, حين يعمد أناس لا تاريخ لهم أصلا, الي شن حملة مغرضة علي دولة هي أصل الوجود, تحت دعاوي اختلال العدالة في مصر وهم يعلمون تمام العلم, أن العدالة التي يتشدقون بها, إن هي إلا من معطيات مصر للبشرية. ******* ولم أكن لأجد الجرأة علي التقدم بمثل هذا الرأي.. لو لم يكن نخبة من أبرز علماء الغرب في العصر حديث, قد زودونا بأغلب الحقائق الخاصة بهذا الموضوع, نستطيع أن نتجاوز لضيق المجال تفاصيلها ونكتفي بخلاصتها. لقد خصص المؤرخ البريطاني الشهير( أرنولد توينبي)في فهارس موسوعته مساحة لانجلترا, تبلغ سدس تلك التي أفردها لمصر, ورد علي النقد الذي طاله من بعض العنصريين, بأن المصادفة البحتة هي التي لعبت دورا كبيرا في منح إنجلترا هذه المساحة, ولو أن المعيار في تخصيص الفهارس كان يستند الي أهمية مصر في الحضارة الإنسانية, لوجب ألا يتعدي نصيب إنجلترا واحدا من ستين جزءا, ولمصر التسعة والخمسون الباقية. إن هذه الحقيقة التاريخية, لم ينفرد بها توينبي وحده بل غدت اتجاها يتبناه جمع غفير من كبار الباحثين, وحسبنا أن نذكر منهم المؤرخ الألماني( أدولف أرمان) الذي قرر أن دراسة المنجزات الحضارية المصرية, تؤكد ان المصري عنصر فنان وفذ سبق العالم بأسره بابتكاراته الحضارية الرائعة, وبينما كانت اليونان أساس الحضارة الغربية الحديثة في مهد طفولتها, كانت مصر منذ الأزل تقود العالم, وكان العالم كله يغترف من ينابيع حكمتها. وليس الحديث عن كل هذه الانجازات الحضارية من أهدافنا, ذلك أنه موضوع لا نهاية له, وحسبنا القول إنه ليس هناك شيء تركه قدامي المصريين, وحسبنا القول إنه ليس هناك شيء تركه قدامي المصريين, واستثار شعوب العالم الحديث مثل العدالة. فقصة العدالة في مصر, إن هي إلا قصة الحضارة المصرية نفسها, فقد واكبت هذه الحضارة قبل أن يبزغ فجر التاريخ, فكانت دائما المنار الذي أضاء تلك العصور, ومابرح العالم منذ فجر التاريخ, يسبح في خضم هذه العدالة. وفي وسعنا أن نحدد علي وجه التقريب, أن النظام القضائي في مصر حتي عهد الأسرة الفرعونية السادسة(21812345 ق. م) كان يعتمد علي القوانين المدنية والجنائية, التي كانت في غاية الرقي, كما كانت قوانين الملكية والميراث قوانين مفصلة دقيقة, وكان الناس متساوين مساواة تامة أمام القانون. ومن ثم كان النظام القضائي المصري آنذاك, لا يقل في شأنه عن النظام القضائي في هذه الأيام. هذا ماأسدته مصر للحضارة اليونانية, والتي يعتبرها الغربيون الأساس الأول الذي بنوا عليه حضارتهم المعاصرة.. فماذا يقال عن الحضارة والعدالة الأمريكية, التي هي أحد مكونات الحضارة الغربية ؟! يقول المفكر الأمريكي( هنري ميللر): المشروع الأمريكي ساقط حتي وهو في ذروة انتصاره. وليس الحديث عن التاريخ الكامل للمشروع الأمريكي من أهدافنا, ذلك أنه موضوع لا نهاية له, ولذلك سنتوقف عند أهم ماقيل فيه من آراء, لا تعدو الحقيقة إذا قلنا, إنها التجسد الحي لفكرة أمريكا. ومنها ماقاله أرنولد توينبي: بأن تاريخ أمريكا, خاصة بعد الحرب العالمية الأولي, يجسد ثورة مضادة دائمة ومتواصلة في العالم... وأكد أيضا أن التطور التاريخي والتوسعي لأمريكا, هو معارضة امبريالية وكونية ضد التاريخ وفكرة التقدم. وجريا علي هذا النسق من معارضة امبريالية وكونية ضد التاريخ وفكرة التقدم. وجريا علي هذا النسق من الآراء وصف الفيلسوف المجري البارز( لوكاتش) دور أمريكا في العالم مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية بالكلمات التالية: في فترة مابعد الحرب, اقتنصت الولاياتالمتحدةالأمريكية موقع القوة الامبريالية الرئيسية في العالم, شاغله بذلك موقع ألمانيا النازية في الماضي, واستطاعت الطبقة المسيطرة في هذا البلد الحفاظ علي الأشكال الديمقراطية الشرعية بدرجة ناجحة, الأمر الذي مكن الولاياتالمتحدة عبر الأساليب الديمقراطية الشرعية من إقامة ديكتاتورية الرأسمالية الاحتكارية, بنجاح مماثل لما فعله هتلر باستخدام وسائل القمع والاستبداد, وهذه الديمقراطية المزعومة أفلحت في تحقيق كل ماسعي إليه هتلر. وقد أجمل الفيلسوف( روجيه جارودي) هذا التطور بقوله في مقدمة كتابه أمريكا طليعة الانحطاط : إننا نوشك أن نغتال أحفادنا, ونعد انتحارا كوكبيا في القرن الحادي والعشرين, إذا مااستسلمنا للانحراف القائم في السياسة العالمية. وعند هذا الحد, يتوجب علينا أن نستوحي قول الناقد البريطاني اللاذع( برناردشو): إني كاتب ساخر, ولكن لم تبلغ بي السخرية حدا يجعلني أذهب الي الولاياتالمتحدة, وأشاهد تمثال الحرية علي بابها... وبعد هذا القول الجريء, هل تصدق أن الولاياتالمتحدة هي مهد الحرية والعدالة والديمقراطية ؟! وإن كنت علي صواب فيما أراه, فإن الحرية والعدالة والديمقراطية بالمفهوم الأنجلو سكسوني الصهيوني, تعني سنسقط أي نظام في أي مكان, مالم يتماش مع سياستنا, أو يحقق مصالحنا حتي ولو كان ديمقراطيا. وهكذا يمكننا أن ندرك وبسهولة بالغة, أن التدخل الأمريكي تحت دعاوي حماية حقوق الانسان وحماية الأقليات, وإشاعة الديمقراطية وما إلي ذلك, إن هي إلا أحط صنوف الكذب والافتراء, خدمة لأهداف أمريكا الاستراتيجية في محاربة ومحاصرة الدول التي لا تروق لها مواقفها أو سياستها, تلك الأهداف التي يقوم بصياغتها وتمريرها بل وفرضها أرباب المسيحية الصهيونية في أمريكا, والذين زادوا من ضخامة تأثير نفوذ إسرائيل واللوبي اليهودي في أمريكا, وغزو العراق نموذجا. يقول المحلل الأمريكي( هورنبرجر): إنه لا علاقة بين غزو بوش الإبن واحتلاله للعراق وبين العدالة والحرية والديمقراطية, وليست هناك علاقة بين الغزو وبين أسلحة الدمار الشامل, فقد استهدف الغزو تحقيق هدف معين, يتمثل في الاطاحة بنظام الحكم في العراق, وإحلال نظام موال لأمريكا محله, والمرشح الأول بعد العراق السودان. وهكذا أصبح عالمنا العربي يعيش علي حافة السكين, فما لم يتم من دولة تقسيمها, سيجري تطويعها بالجملة, كي تكون أمريكا وإسرائيل متحكمتين في مصائرها في حاضرها ومستقبلها. وهذا ماعبر عنه التقرير الذي نشره معهد( راند) المقرب لصناع القرار في الولاياتالمتحدة, حول أفضل الخيارات الاستراتيجية للتعامل مع الشرق الأوسط, حين ذكر: أن ضرب العراق هو هدف تكتيكي, ومصر هي الجائزة الكبري. إذن, فالأهداف الاستغلالية للأضعف من قبل الأقوي تتكرر, وعلينا ألا ننتظر توبة القوي عن غيه, بقدر ما علي الضعفاء أن يتكتلوا وينتفضوا ضد الظلم, سيما أن ثمة ضعفاء استطاعوا أن ينالوا حقوقهم بالمثابرة, وأقصد بها المقاومة الحقة للشعب العراقي. والتي لولاها لتمكنت أمريكا من تحقيق استراتيجيتها في منطقتنا العربية, وتفادت أكبر خيبة أمل في تاريخها, أهم ماانبثق عنها كراهية الشعوب لادارة بوش الابن الذي تفوق بنذالته وحماقته علي أشهر من انجبه التاريخ من أوغاد, وقد بلغت الي الحد الذي يدعي فيه أنه يهدي الحرية والديمقراطية الي العراق, وفي الوقت نفسه يقيم داخل أمريكا ذاتها نظاما بوليسيا للتعذيب والوشايات والمحاكمات العسكرية.. وعمليات التفتيش غير القانونية, ولا نحتاج في هذه المسألة بالذات للتذكير بمعتقل أبو غريب ومعتقل جونتانامو, وقد جاءت تسريبات موقع ويكيليكس الأولي والثانية لتضع أمريكا في مصاف الدول الأبشع إرهابا في التاريخ. وفي نهاية المطاف, لن نجد مانختتم به مقالتنا هذه. سوي أن نستوحي قول السفير البريطاني( سير رونالد لينداس) في سياق وصفه للنفسية الأمريكية في عشرينيات القرن الماضي: إنني أعلم أن الأمريكيين شعب مخيف إذا تعاملت معهم, وأنهم يقدمون وعودا قاطعة, ويمنونك بالأحلام, وعندما تتورط يتخلون عنك.