عندما يصير الزمن إلي خلو..سوف نراك من جديد. لأنك صائر إلي هناك. حيث الكل في واحد .بهذه الكلمات المنقولة عن رقائق' نشيد الموتي' المصري القديم, صدر توفيق الحكيم روايته عودة الروح', وبهذه الكلمات تتجسد أزمة الأقباط في المشاركة في الشأن العام والشارع السياسي, ضمن سياق عام تقلصت فيه المشاركة الشعبية الفعلية في صنع القرار.كانت الرواية واحدة من الأعمال الأدبية التي داعبت أحلام وطموحات شباب الضباط الأحرار وفي المقدمة منهم جمال عبد الناصر, وعندما دانت لهم مقاليد السلطة ترجمت الكلمات الي واقع ليصير الكل في واحد, كان الزعيم يري أنه المخلص القادم لينقذ البلاد في لحظة تاريخية فارقة محسوبة بعناية وتدقيق يفوقان قدرات الأفراد وتلمح خلف الأحداث وبحسب من رصدوها لاحقا أن قوي وأجهزة ومؤسسات كانت تشارك في تحريك وترتيب خيوط اللعبة, لتبدأ سطور رواية جديدة تكتب وتتوالي, لينفرد الزعيم بالسلطة, يسبقه حلمه فيدشن نسق المجتمع الأبوي, وفي عصره لم يكن هناك مكان لنزاعات أو أطروحات يكون الجدل' الديني ` السياسي' محورها, فالجهد كله كان مكرسا لتحقيق زعامة ناصر في الدوائر العربية والإفريقية والشرق أوسطية وربما فيما هو أوسع في دائرة العالم الثالث وتحالفات عدم الانحياز وقتها, وكان أحد أهم تجلياته الدعوة لتأسيس وتكريس' القومية العربية'. خفت الجدل الديني لكنه لم يندثر, كانت اسهامات التيارات الإسلامية وتحالفاتها في مرحلة الإعداد' لحركة الضباط المباركة' والجذور الدينية الريفية لها ترسل اشاراتها الي الشارع بشكل متواتر تكشفها بعض جمل أو عبارات في خطب الزعيم, وتجسدها بعض من قراراته الشعبوية, تحويل الأزهر الي جامعة وانشاء اذاعة القرآن الكريم وغيرها, حتي جاءت كارثة يونيو67 ليشهد الشارع انفجارا نحو تديين قضاياه ومشكلاته كردة فعل للهزيمة التي أسندها البعض الي البعد عن الله فكانت عقابا الهيا لنا علي هذا, وروج لهذا المعني بكثافة والحاح. وتحمل الأيام تحولا دراميا قدريا سنلمس تداعياته في دائرة علاقة الأقباط بالدولة فيما بعد, عندما يرحل الرئيس عبد الناصر 28 سبتمبر1970 ويلحقه في الرحيل بعد بضعة شهور البطريرك المصري البابا كيرلس السادس 9 مارس1971 ليأتي الرئيس محمد أنور السادات علي قمة الهرم السياسي خلفا للرئيس عبد الناصر, وقداسة البابا شنودة الثالث علي قمة الهرم الكنسي خلفا للبابا كيرلس السادس. كان أمام الرئيس السادت تحد كبير, خاصة وأنه يأتي عقب رحيل زعيم له وهجه الشعبي محليا وإقليميا يملك حضورا طاغيا, لم يتنازل عن حتمية المواجهة مع العدو الصهيوني وإن ترك البلاد وجزء عزيز منها تحت الإحتلال الإسرائيلي, واقتصاده مثخن بتبعات حروب متتالية, وشعب جرحت كبريائه مع هزيمة يونيو67 الثقيلة والمباغتة, وجيش يعيد ترتيب صفوفه ويشتبك مع العدو ببسالة فيما عرف بحرب الإستنزاف, وإرهاصات انعطاف شعبي نحو الدين كحائط صد أمام انهيار متوقع للهوية الوطنية, وتحفز قوي إقليمية لملء فراغ الإنسحاب المصري عن موقع القيادة الإقليمية وربما الدولية, وصراعات عند القمة وغليان عند القاعدة تستعجل الثأر واستعادة الكرامة. تفتق ذهن الرئيس السادات عن خيار ناجز وهو مواجهة الأيديولوجيات السائدة, الناصرية واليسارية, بالأيديولوجية الدينية وبها يحقق تعاطفا شعبيا في لحظة فارقة, في استثمار محسوب للاحتماء الشعبي بأهداب التدين, وكان له ما أراد عبر إحياء وبعث التيارات الراديكالية الإسلامية النائمة. مرت العلاقة بين الرئيس السادات والجماعات الاسلامية الراديكالية بمرحلتين, مرحلة الوفاق وفيها كان الطرفان يسعيان وفق المعلن لغاية واحدة: تأكيد إسلامية الدولة, وكان الملعب السياسي قد أفرغ لفريق تلك الجماعات, حتي في الجامعة التي كان يحظر فيها ممارسة العمل السياسي الطلابي, وكانت الخطوات متسارعة, الي الدرجة التي استشعر فيها الأقباط بالخطر والاستهداف, فهم عند اجنحة عديدة في هذه الجماعات' أهل ذمة' وعليهم التزامات تفرضها هذه الرؤية, وبدأ الحديث عن الجزية والولاية والتبعية والالتحاق بالجيش وغيرها من الأطروحات السلفية يجد مكانا في الإعلام والتعليم والثقافة, بل وراحت اجنحة أخري تطبقه في الشارع ودواوين الحكومة وتفرضه كأمر واقع, وعندما اختلف الرفقاء السادات والجماعات وهي المرحلة الثانية في العلاقة, راحت الجماعات تبحث عن تمويل بديل لنشاطها, وقد اكتسبت أرضا في استمالة قطاعات من الشارع وبعض من اجنحة السلطة, ووجدت ضالتها في أموال الأقباط فاستهدفتها بل واستهدفت الأقباط انفسهم في رسائل ترسلها, عبر نهب ممتلكاتهم والهجوم علي دور عبادتهم, الي النظام في محاولة لبيان مدي قوتهم وسيطرتهم. ذهب السادات ولم تذهب الجماعات بل تمحورت كما يفعل الفيروس في مواجهة المضادات الحيوية لتغير جلدها وتتوالد وفق معطيات جديدة, ولم يذهب فزع الأقباط بل انتقل الي أجيالهم الجديدة في ظل تغيرات موازية شهدتها الكنيسة جزء منها جاء وفق علاقة الفعل ورد الفعل وجزء آخر ترتب علي طبيعة التحولات في قيادتها, في تواز كانت الكنيسة القبطية تشهد تحولا في منهج عملها; فقد جاء علي رأسها محارب عتيد يحمل معه رؤية محددة لطالما طرحها علي صفحات مجلة مدارس الأحد التي كان يرأس تحريرها في مقتبل شبابه(1947 1954) وخرج منها قاصدا الرهبنة باعتبارها المدخل الوحيد للدخول في دائرة القيادة الكنسية, وكان له ما أراد, وبمثابرة فذة أعاد هيكلة مجمع الأساقفة بتطعيمه بزمرة من الشباب الذين استقوا رؤاهم عبر تلمذته لهم منذ ان كان أسقفا للتعليم 30 سبتمبر1962 وربما قبلها, سرعان ما أصبحوا اغلبية مجمع الأساقفة, المنوط به رسم وتنفيذ رؤية الكنيسة وسياساتها, وبحكم العلاقة الأبوية والتلمذة صار البابا البطريرك هنا هو من يضع السياسات الكنسية ويتابع الالتزام بها. لم يجد الأقباط أمامهم بديلا عن الإحتماء بالكنيسة ربما حفاظا علي هويتهم وربما حفاظا علي حياتهم, وكانت ابواب الكنيسة مفتوحة, وكان النظام راضيا, فهذا أمر يسير في اتجاه اختزال الأقباط في الكنيسة واختزال الكنيسة في شخص, يملك في هذه اللحظة التاريخية مقومات الزعامة ويري في الأمر إضافة إلي ثقله ومكانته, لكن الأمر لم يكن بهذا التبسيط فقد برزت في الأفق بوادر صدام مرتقب, ففي الوقت الذي استقر فيه عبر الواقع أن البابا هو زعيم الأقباط وربما المتحدث باسمهم, كان رئيس الدولة يري في هذا مزاحمة لصلاحياته, وبدا هذا في نبرة خطاباته العامة والرسائل التحذيرية التي تحملها سطوره للبابا والكنيسة. كانت السماء ملبدة بالغيوم, إذ لم يصاحب البابا الرئيس السادات في رحلته المباغتة للقدس, وعندما زار الرئيس الولاياتالمتحدةالامريكية استقبلته مظاهرات غاضبة من الفلسطينيين, وتصادف ان كانت هناك مظاهرات مماثلة من بعض اقباط المهجر, ظن معها السادات ان البابا يقف ورائها, علي خلفية ما يحدث بالداخل من تصاعد وتيرة استهداف الأقباط دون مواجهة حقيقية من الدولة للتيارات التي تقوم بهذا, الأمر الذي دعا البابا الي اعلان إلغاء الاحتفال بالعيد وذهابه للاعتكاف بالدير وعدم استقبال المهنئين الرسميين من الدولة في هذه المناسبة, رغم الوساطات العديدة علي اعلي مستوي, الأمر الذي حسبه الرئيس محاولة لإحراجه في زيارته هذه. وتتصاعد الأمور ليقع الصدام المدوي في5 سبتمبر1981 عندما اصدر الرئيس السادات عدة قرارات عنيفة كان من نتائجها اعتقال المئات من كل التيارات السياسية المناوئة, استوي في هذا اليساري واليميني والناصري والليبرالي والشيوخ والكهنة والأساقفة, وأيضا عزل البابا والتحفظ عليه في احد الأديرة, وفي هذا المناخ الملتهب تقوم إحدي الجماعات الإسلامية باغتيال الرئيس السادات في6 اكتوبر1981 دعونا نكمل الرصد في مقال تال, ونضع أيدينا علي مفاتيح علاقة الأقباط وموقفهم من الانتخابات, فإلي لقاء. [email protected]