الله أعلم! الواحد من دول تلاقي مرتبه مايكفيش يأكل قطة, ورغم كده تلاقيه هو ومراته وولاده ويمكن حماته وامه عايشين, ومبسوطين! دي حاجة بتاعة ربنا!الناس دي أكيد عايشة بمعجزة! اعتادت كل طبقة في مصر ان تنظر لما دونها من طبقات بعين ملؤها التعجب والاندهاش, فكيف لشخص يتحصل من عمله علي مبلغ كذا, وهو ذات المبلغ الذي ينفقه شخص واحد من ابناء طبقة اعلي علي وجبة عشاء او قميص جديد, ويكفيه هو وبقية أفراد اسرته؟ معادلة عجيبة غريبة, لكنها كانت دائما تجد من يحلها بشكل أو بآخر. ليس هذا فقط, بل كان أهم ما يميز المصريين هو تلك الملامح البشوشة المبتسمة المتفائلة خيرا, رغم أنه قد يبدو إلي الرائي انه لا يوجد ما يدعو إلي التفاؤل والبشاشة. معجزة العيشة ورغم مرور السنوات والعقود, وتبدل الظروف والأحوال, وانتقالنا من عصر الاشتراكية, إلي الانفتاح الاقتصادي, ومنه إلي شيء يشبه الرأسمالية, وكل ما حملته لنا من بيع للقطاع العام والخصخصة والبصبصة وكل ما من شأنه الا يكون مفهوما لدي الغالبية, المتعلمة منها وغير المتعلمة, رغم كل ذلك مازال هذا الحديث يجري بين شتي فئات المصريين. صحيح أن الصحون اللاقطة اعتلت نسبة كبيرة جدا من بيوت المصريين وعششهم واكواخهم, بما في ذلك سكان المقابر الذين يحظون مثلهم مثل غيرهم بمشاهدة قنوات الأفلام والمسلسلات والمسابقات, واتصل ب0900 لتكسب نصف مليون جنيه, وصحيح ايضا ان السيارات الملاكي تكاد تسير علي هيئة طابقين واحيانا ثلاثة, في حال كانت هناك لجنة عند منزل الكوبري او كمين في عزالظهر وصحيح ان الناس كلها تمشي في الشارع وتأكل وتعمل وتقضي حاجتها وتنام وهي تتحدث في الموبايل, الا أن الحديث عن الأجور في مصر تحول من التعجب من المعجزة التي تجعل محدودي الدخل واحيانا معدوميه يعيشون ويتزوجون وينجبون ويأكلون ويشربون إلي التعجب من المنطق الرسمي من مسألة الأجور. ولأننا نعيش في الألفية الثالثة التي انتعشت فيها جمعيات وجماعات ومؤسسات حقوق الإنسان, حتي بات لكل حق من الحقوق جماعات تعمل من أجله, قد تبني بعض من هذه الجماعات مسألة الأجور وتدنيها إلي درجة الكوميديا, وصارت قضية رأي عام, ونقطة اتهام موجهة إلي الحكومة, ومجالا للتراشق بالمواقف بين الأحزاب المدجن منها وشبه المدجن والحكومة, وفي خضم هذا كله نجد الوقفات الاحتجاجية والجلسات الاعتصامية والتظاهرات العشوائية المنددة بالدخل الذي لا يكفي لإطعام دجاجة, او لعلاج قطة, او لتعليم أرنب. صداع نصفي وعلي حد علمي فقد تبني المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مسألة المطالبة بوضع حد أدني للأجور في مصر, وفي مارس الماضي حصل المركز علي حكم قضائي يلزم الحكومة بوضع هذا الحد, وبالطبع, وبما أن الأمر يتعلق بشرائح عدة من المجتمع ممن يعتقد اصحابها انهم يحصلون علي ماهو ادني بكثير من اي حد ادني في العالم للأجور, فقد شغلت القضية الرأي العام, والإعلام, وهو ما سبب علي الارجح صداعا نصفيا من النوع السخيف والرذل في رأس الحكومة المسكينة المثقلة اصلا بكم هائل من المسامير التي يتم الدق عليها من هنا وهناك في رأسها. وبقيت المسألة تتأرجح بين البيانات التي يصدرها المركز بين الحين والآخر في محاولاته الحثيثة لحث الحكومة علي الوصول إلي حد ادني منطقي للأجور ومن ثم تفعيله!! وشكل هذا مادة ثرية للإعلام المطبوع والمرئي, فليس هناك افضل من مجموعة من السيدات الممسكات بأغطية الحلل المكتوب عليها عبارات مطالبة بأن يتناسب الأجر ومستوي الأسعار, او المطالبات بعين العطف والاهتمام من قبل الحكومة إلي جموع البشر الغفيرة ممن تحاول جاهدة ان تمسك بخط الفقر وكلها خوف وهلع من ان تفقد قدرتها علي الإمساك به وتسقط في غياهب ما بعد الفقر علي وزن ما بعد الحداثة. تقريب الفوارق وعلي الرغم من اننا كما عهدنا دائما نعيش في بلد قائم علي دستور شامل وراسخ يتم احترام مواده دون انتقاص او خلل, وعلي الرغم من ان المادة34 من الدستور طالبت بتقريب الفروق بين الدخول, مؤكدة حق المواطن في حد أدني عادل للأجر, الا أن عادل خرج ولم يعد! فهناك في مصر من يتقاضي أجرا شهريا قدره مائة جنيه! نعم مائة لحلوح بالتمام والكمال, وانبري من بين الصفوف من ندد بالاعتراض علي تلك الجنيهات النعمة والفضل من الله سبحانه وتعالي, لاسيما وأن نسبة فلنقل كبيرة ممن يعملون في قطاعات مختلفة لا يعملون فعليا, اي انهم يتوجهون إلي مقارأعمالهم فيوقعون في دفتر الحضور والانصراف, او ربما لديهم شبكة اصدقاء مخلصين تقوم نيابة عنهم بالتوقيع, لكنهم فعليا لا ينجزون عملا يستحقون عليه ولا حتي خمسة جنيهات. وعلي فكرة هناك من يكتفي عمله الحكومي بحكاية التوقيع في الدفتر او حتي التوقيع الالكتروني ثم يهرع إلي مقر عمله الخاص الذي يدر عليه دخلا كبيرا, ورغم وجود مثل تلك النوعية من العاملين بالنية إلا أن هناك اضعاف اضعاف هذه النوعية ممن تعتمد اعتمادا كليا علي الراتب الذي يدره عليها هذا العمل, مهما كان متدنيا, ورغم أن بعض اولئك بالفعل لا يبذلون اي جهد في عملهم, الا أن ذلك صار ارثا ثقافيا واجتماعيا لدينا, فمن الذي سكت عليهم وأغمض الطرف عن النوم علي المكاتب؟ ومن الذي تساهل معهم عبر عقود طويلة جدا وتركهم يرتعون في اروقة المكاتب دون شغلانة معينة يقومون بها؟ ومن الذي سمح بأن يكون التعيين معتمدا علي مبدأ العدد في الليمون؟ وهل يمكن ان نحاسب من ولدوا وتربوا وكبروا وانضموا إلي سوق العمل في ظل تصور بأن عملهم في هذه الهيئة او تلك يعني أوراق تعيين وراتبا شهريا لا يرتبط بحجم العمل أو نوعيته؟ وهل يمكن أن نغير بجرة قلم الاعتقاد الراسخ السائد والذي لم يبذل أحد جهدا في تغييره بأن الأجر الشرعي يعطي صاحبه الحق الشعري والقانوني والأخلاقي والمجتمعي في ألا يبذل جهدا أو يتحرك من مكانه, وذلك علي أساس أن مجرد وجوده بجسده في مكان العمل يوازي راتبه؟ الدفاع الاجتماعي وجهة نظر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي أنه لا يمكن في المرحلة الآنية ربط الأجور بمستوي الإنتاجية, يعني من ينتج بقرش يتقاضي قرشا ومن ينتج بمليون يتقاضي مليونا فالحد الأدني للأجر هو حد الدفاع الاجتماعي. هذا الحد يتم حسابه في المجتمعات عالميا وبناء علي مواثيق دولية وفقا لمتوسط نسبة الإعالة في المجتمع, مع حساب سلة المستهلك التي يجب ان تكفي الأسرة لحياة كريمة في الغذاء, والكساء, والتعليم, والصحة, والمواصلات, والسكن وغيرها من الاحتياجات الرئيسية. العدالة الاجتماعية التي يشير إليها المركز تكفل أجورا كريمة للعمال والموظفين, وتقي المجتمع من القلة المحتكرة التي تشعل حرائق أسعار السلع والخدمات الأساسية التي تئن الملايين تحت وطأتها, وذلك دون تدخل حقيقي من الحكومة والتي هي في الوقت نفسه المعارض الرئيسي لمسألة وضع حد أدني عادل للأجور. وكان الحد الأدني من الأجر العادل الذي حدده المركز هو1200 جنيه مصري. المثير هو انه حتي عام2008 كان الحد الأدني للأجور هو35 جنيها مصريا وهو الحد الذي قرره نص القانون رقم53 لسنة1984!! وقد تم رفع هذا الحد الكوميدي إلي بين250 و300 جنيه شهريا حسب الدرجة والمؤهل الدراسي. وبعيدا عن التفاصيل الدقيقة والصراع بين الحكومة الرافضة لمجرد الحديث عن ال1200 جنيه المقترحة والتي من شأنها والعهدة علي الحكومة ان تتسبب في اشتعال اسعار السلع والخدمات, ومن ثم زيادة معدلات التضخم, وبين الجمعيات الحقوقية ومن ورائها الملايين ممن يحلمون بمن ينتشلهم من علي خط الفقر العالقين حوله, نجد ان الوضع الراهن يشير إلي أن الحكومة تربست عند400 جنيه كحد أدني معقول, أي نحو19 جنيها في اليوم ليس هذا فقط, بل اتضح ان رفع الحد الأدني للأجور مسألة سيئة جدا وكريهة ولو حصلت ستنجم عنها مصائب ما أنزل بها الله من سلطان! فالدكتور أحمد نظيف حذر من مغبة رفع الحد الأدني الذي سيؤدي إلي تقليل فرص الشباب في الحصول علي فرص عمل, بالاضافة إلي التسبب في وجود سوق سوداء في الأجور!!!! تخيلوا لو صحينا يوم الصبح لنجد أن تجار السوق السوداء باتوا يسيطرون علي الأجور ويا عالم يومها ممكن نشتري الأجر الواحد بكام؟! وذكرنا الدكتور نظيف بفضل الحكومة الجم علي الشعب المصري, إذ أنها قد تفضلت من قبل ورفعت بالفعل مستوي الأجور الذي كان35 جنيها فقط لا غير! شك وغضب أسئلة كثيرة تطرح نفسها حاليا فمثل هذا التعامل مع مسألة الأجور والمنطق المستخدم من قبل المسئولين قلته( بكسر القاف) أحسن! فللأسف إن الناس التي لا تفهم في الاقتصاد والمال والأعمال والبيزنس تنظر إلي مثل هذا الكلام بقليل من الشك وكثير من الغضب وإذا عرفنا ان مثل تلك الحجج المتذرعة بارتفاع نسب التضخم والذي لا تفهم معناه الغالبية وزيادة نسبة البطالة والتي تعيها تماما الغالبية توازيها حجج اقوي وعبارات وبيانات داعمة لمشكلات الناس اليومية ومتاعبهم الاقتصادية وأوجاعهم الاجتماعية, وذلك من قبل الجمعيات الحقوقية ووسائل الإعلام الخاصة, فإنه يمكننا ان نتوقع نتيجة المباراة مسبقا. وإذا شغلنا أنفسنا بالحديث عن مستوي الحد الأدني من الدخل الشهري, وهل هو120 أم400 أم1200 أم7200 جنيه( الأخيرة جاءت ضمن توقعات وزير التنمية الاقتصادية الدكتور عثمان محمد عثمان عن دخل الفرد في مصر في عام2017/2016), فهذا يستدعي سؤالا حول وضع العاطلين عن العمل, والملايين الأخري التي تعمل في قطاع غير نظامي, بدءا من عمال البناء, ومرورا بسائقي وتباعي الميكروباص, وانتهاء بعاملات المنازل وغيرهم. وعلي الرغم من أن الحديث عن رفع الحد الأدني للأجور يثير شهية الكثيرين ويستنفر أحلامهم بمستوي معيشي أفضل, إلا أن واقع الحال يؤكد ان الوضع الحالي بكل ما فيه من تفاوت رهيب في مستويات الدخل, وإنكار حكومي مستمر لمعاناة الناس, أو محاولات حثيثة للصق تهمة المعاناة بالناس أنفسهم إما لأنهم كسالي لا يعملون أو أنهم يفتقدون إلي معايير التعليم والتثقيف المطلوبة في سوق العمل, أو لأنهم طماعون ودخلهم يكفي وزيادة, أو لأنهم مش فاهمين اقتصاد وتضخم وتقعر, أو لأنهم مش عارفين في مصلحتهم وأن الله سبحانه وتعالي يبارك في الرزق القليل الحلال وأن الرزق الكثير ليس مكتوبا لهم, وأن الإصرار عليه يكون بمثابة اعتراض علي إرادة ربنا, هذا الوضع غالبا مستمر لسنوات كثيرة مقبلة فجميع المؤشرات تؤكد ان جديدا لم يجد حتي يستدعي تغيير الصورة, وبعدين ايه يعني شوية جمعيات عاملة أزعرينة في المحاكم؟ أو شوية عمال وموظفين عاملين شوية هيصة في شارع قصر العيني ؟ بكرة يحين موعد مباراة مهمة تلهيهم عن تفاهاتهم, أو كارثة ثقيلة تشغلهم وتشتت تفكيرهم إلي مسائل اخري, أو خناقة إعلامية بين فلان وعلان تنسيهم غلبهم, أو حتي أزمة طماطم تدعوهم إلي وقفة احتجاجية تطالب بإتاحة الطماطم بأسعار في متناول اليد بدلا من رفع الحد الأدني للأجور وما يتسبب فيه من صداع وقرف. عموما هناك اقتراح بسيط بأن يتنازل الشعب عن المطالبة بوضع حد أدني للأجور في مقابل أن تضع الحكومة حدا اقصي للأسعار ينفع كده؟