لايمكن أن ننسي الأحداث الداخلية والتوترات السياسية والاجتماعية وبوادر الانهيار الاقتصادي التي دارت في جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي عقب انهيار التجربة السوفيتية رسميا في عام1991.ومن الصعب أن نتجاهل مايجري من أحداث داخلية وبالذات في روشسيا وأوكرنيا وبيلاروسيا. ومع ذلك فالشأن العام اقتصاديا وسياسيا بين هذه الدول يسير الي الأمام من حيث المحاولات والسعي والتجريب. ففي15 أكتوبر الحالي ناقش رؤساء وزراء روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا, فلاديمير بوتين وسيرجي سيدورسكي وكريم مسيموف, المبادئ التي سيستند اليها الاتحاد الاقتصادي المزمع انشاؤه في المجال السوفيتي السابق تحت اسم المجال الاقتصادي الموحد والذي يتطلب توقيع17 اتفاقية تكاد تكون جاهزة فعليا. المدهش أن المتطلبات التي يجب أن يتم التوافق عليها تدور حول عدم تجاوز عجز ميزانية كل من الدول الثلاث3% من الناتج المحلي الاجمالي ولايتجاوز اجمالي الديون العامة50% من الناتج المحلي الاجمالي. وتدور أيضا حول ضرورة أن يبدأ العمل بمؤشرات أداء الاقتصاد المشتركة في عام2013. قد يكون كل ذلك مجرد لقاءات وأماني, ولكن المتطلبات المطروحة لافتة للنظر. اذ أنه من الواضح أن الدول الثلاث( روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان) اختارت اقامة المجال الاقتصادي الموحد علي أساس يماثل أساس الاتحاد الأوروبي المتمثل في معاهدة ماستريخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي والتي وقعت في مدينة ماستريخت الهولندية والتي حددت في زمنها نسبة3% خطا أحمر لايجوز تجاوزه بأي حال من الأحوال بالنسبة لمتوسط العجز في ميزانيات دول الاتحاد الأوروبي. من الممكن أن يتعلم الروس والبيلاروس والكازاخ من أخطاء دول الاتحاد الأوروبي, وبالذات فيما يتعلق بعدم التمسك الدائم بأحكام معاهدة ماستريخت الأمر الذي سبب لها مشاكل كثيرة عندما امتدت الأزمة المالية العالمية الي أوروبا, حيث بلغ متوسط العجز في ميزانيات دول الاتحاد6,8% من الناتج المحلي الاجمالي في عام2009. هذه المقدمة كافية لاسترجاع الشعارات العربية التليدة من حيث التقارب الجغرافي والثقافي والتاريخي ووحدة المصير والتي كشفت طوال عشرات السنين الماضية والحالية عن تضارب في المصالح ليس الا, ومن ثم الابتعاد عن أي خطوة عملية والاكتفاء بترديد نفس الشعارات كلما اقتضت الحاجة أو المصالح الفردية الضيقة. في27 نوفمبر2009 فاجأ الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف والكازاخي نور سلطان نزاربايف عندما وصفهما في كلمة استهل بها اللقاء الذي ضم رؤساء دول الاتحاد الجمركي الثلاث في العاصمة البيلاروسية مينسك ب الرفيقين المحترفين وأبلغهما أن بيلاروسيا احتضنت اجتماعا جديدا يترك تأثيره في مصير دولنا هذا اللقاء أسفر عن قرار بتوحيد مستوي التعريفة الجمركية بين دول الاتحاد الجمركي اعتبارا من1 يناير2010 تمهيدا لاقامة الاتحاد الاقتصادي الكامل علي أرض الواقع في عام2012 وفي الوقت نفسه اعتبر محللون كثيرون أن المقصود من كلمة الرئيس البيلاروسي هو أن ينطلق الاتحاد السوفيتي من رماده في صورة اتحاد اقتصادي جمركي في عام2012 بينما رأي آخرون أن تكوين اتحاد جديد في الساحة السوفيتية السابقة سيتم في العام الذي تختار فيه روسيا رئيسها الجديد ليظهر هذا الرئيس قادرا علي لم شمل الاراضي الروسية. وعلي الجانب الآخر حذر بعض المحللين قادة بيلاروسيا من مغبة الاقدام علي هذه الخطوة من منطلق أن الانضمام الي اتحاد تقوده روسيا لايستجيب لمصالح بيلاروسيا لأن كيانا اتحاديا من هذا النوع لن يسعي الا الي خدمة مصالح روسيا. واستندت هذه الرؤية الي سفر رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين في نفس يوم لقاء مينسك الي باريس ليقنع الفرنسيين بالانضمام الي مشروع ينطوي علي أهمية كبيرة لروسيا, وهو مشروع انشاء خط أنابيب جديد لنقل الغاز الطبيعي من روسيا الي أوروبا عبر البحر الأسود بعيدا عن بيلوروسيا. من الواضح أن هناك تناقضات حادة بين مصالح الدول الثلاث عموما, وبين روسيا وبيلاروسيا علي وجه التحديد. ومع ذلك يسير المشروع الي الأمام لأن فوائده أكبر بكثير من خسائر التناقضات. علما بأن كل ذلك كان يجري وأوكرانيا في قبضة الثوار البرتقاليين. ولكن بعد أن عادت كييف الي أحضان روسيا من جديد,قد تنضم القيادة الأوكرانية الي هذا المشروع ليتأسس هذا المجال الاقتصادي الموحد بين أهم وأكبر4 جمهوريات سوفيتية سابقة, وهو ما من شأنه أن يجتذب بقية جمهوريات آسيا الوسطي السوفيتية السابقة أيضا المرتبطة عضويا, ليس فقط بالاقتصاد الروسي, بل بالسياسة والتوجهات الجيوسياسية الروسية. هذا المشروع وان كان يهم دول المجال السوفيتي السابق, الا أن أنظارالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عليه لأسباب كثيرة معروفة للجميع. وقد توضع معوقات هنا أوهناك ولكن الارادة السياسية لقيادات هذه الدول, وكذلك الحتميات التاريخية, يمكنها أن تلعب دورها الطبيعي في الاستمرار والتواصل لتحقيق هذا المشروع الهام. والمدهش هنا هو أن تكوين الاتحاد الأوروبي استغرق20 عاما في حين حدد رؤساءروسيا وكازاخستان وبيلاروسيا مدة انشاء المجال الاقتصادي الموحد بعامين فقط بل وحرصوا علي تأكيد أن الهدف من تكوين الاتحاد الجمركي وانشاء المجال الاقتصادي الموحد ليس اطلاقا احياءالاتحاد السوفيتي وشددوا علي أن المقصود هو تحقيق التكامل الاقتصادي فقط بينما تبقي كل دولة سيدة في المجال السياسي. لاشك أن مثل هذه المشروعات مليئة بالمنعطفات الحادة والتناقضات والمخاوف والشكوك. ولا تخلو أيضا من المنافسات, وليس الصراعات. غير أن كل ذلك له مشروعيته في نطاق المصالح الكبري والخطط المستقبلية والحرص, في ذات الوقت,علي مستقبل ومصالح وسيادة كل دولة علي حدة والاتحاد الأوروبي مثال واضح علي ذلك رغم وجود الكثير من الثقوب التي كشفتها الأزمة الاقتصادية العالمية. لكن الفرق شاسع بين الرغبة في الاستمرار في تحقيق المشاريع الضخمة والاصرار علي ترديد الشعارات المثيرة للضحك والأسف في آن واحد فالحكومة الفرنسية, علي سبيل المثال, لم تعتذر للاتحاد الأوروبي عن عدم استكمال المسيرة معه بسبب الأحداث الأخيرة المتعلقة برفع سن التقاعد ولم تعتذر اليونان أيضا بسبب أزمتها الاقتصادية الداخلية. ولم تتراجع ألمانيا لهذا السبب أو ذاك. هكذا يتضح الفرق بين( ماستريخت) و(ما عاوزين).