لو أن القانون رجل مهمته تحديد قواعد التصرف ورسم حدود العلاقات المتبادلة بين الأفراد وحماية الضعفاء وإحقاق الحقوق وتنظيم الأعمال وضمان تحقيق الانضباط والعدالة الاجتماعية والشفافية كما هو جار في كل دول العالم .. يمكنني التأكيد بمنتهي الاطمئنان أن القانون في مصر رجل مغفل وأبله.. يسهل الاحتيال عليه، والالتفاف علي لوائحه، وخداعه بكل يسر ومن دون أدني مشقة. فرغم ترسانة القوانين الموجودة في تشريعاتنا، إلا أن هناك خبراء بيننا بكل أسف يعرفون سبل تغييبها وقت اللزوم لمصالح شخصية غير مشروعة بحيل تبدو قانونية من حيث الشكل أما من حيث المضمون فلا تعني إلا تفريغ القانون من مضمونه تماما. .. حديث الساعة في مصر الآن يدور حول ضرورة تطبيق الحد الأدني والأقصي للأجور، بغرض إنصاف أصحاب الأجور الصغيرة برفعها إلي الحد المقبول، وترشيد الإنفاق العام بالتحكم بعض الشئ في الأجور المفتوحة بلا سقف، لتضييق الفجوة بينهما، وهو موضوع غاية في الأهمية، لكل الفئات بلا استثناء. خبراء الالتفاف علي القوانين وجدوا حلولا لأنفسهم أتاحت لهم صرف أضعاف مرتباتهم بالصورة التي تضرب اللوائح في مقتل، من خلال البدلات والمكافآت الاستثنائية والحوافز ومسميات أخري كثيرة مبتكرة. أسوق هنا مثالا واحدا من واقع إحدي الوزارات الكبري وهي وزارة التربية والتعليم، لمسئولة كانت تعمل مديرا عاما للشئون المالية بديوان الوزارة هي السيدة ألفت عبدالرحيم فرغلي التي لم يكن راتبها الأساسي يزيد علي 900 جنيها شهريا، أما دخلها الشهري فيتجاوز الراتب ب 25 ضعفا علي الأقل، وبيان ذلك كالآتي: 900 جنيه مرتب + 2700 إضافي + 1800 سهر + 1400 من حصيلة التأمين علي الطلبة + عمولة نقابة المعلمين + 700 من التطوير التكنولوجي + 2500 من التعليم الفني + 500 من التربية الرياضية + 3000 من قطاع الكتب + 1500 من التعليم الخاص + 1000 من الإدارة العامة للامتحانات بمجموع 16000 شهريا، إضافة إلي ما تحصل عليه من الحسابات والصناديق الخاصة والمثبت في إدارة الحسابات بديوان الوزارة من خلال دفاتر الشطب + 25000 ألفا من ميزانية الموهوبين بخلاف ما تحصل عليه من لجان الإعارات والتظلمات وغيرها. ليس هذا حسدا، ولكنه بيان لتوضيح فكرة التحايل علي القانون للحصول علي أضعاف ما يتقاضاه نظراؤها، ولو كان زملاؤها يحصلون علي نفس المزايا المالية لما كانت هناك مشكلة علي الإطلاق، ولكن أن يستأثر نفر قليل في كل مصلحة حكومية بالمزايا وحدهم دون غيرهم فهنا يجب التوقف وإعادة النظر، حتي لا يشعر الآخرون بالغبن ويفقدوا الشعور بالانتماء للمجتمع الظالم. طبعا هي ليست مسئولة وحدها عن هذا التحايل، بل المستويات الإدارية الأعلي التي سمحت بابتكار أوجه صرف لا تحقق الحد الأدني من العدالة للعاملين في نفس المكان. ليس هذا كل شئ. السيدة المذكورة صدر بحقها أمر تنفيذي رقم 603 بتاريخ 4 أبريل 2013 بنقلها من مدير عام الشئون المالية بديوان عام الوزارة إلي وظيفة غير قيادية (كبير باحثين ماليين وإداريين) بالإدارة العامة للتكاليف ومقايسات الكتب بقطاع الكتب في الوزارة لما نسب إليها من التسبب في إهدار ملايين الجنيهات من أموال الموهوبين بتوزيعها علي المحظوظين من دون وجه حق في قضية تحمل رقم 13 لسنة 2013 بالمكتب الفني للنيابة الإدارية، وكذا ما نسب إليها من تسهيل الاستيلاء علي المال العام في قضية الفساد الكبري بالإدارة العامة للامتحانات (مكافآت لجنة التظلمات الخاصة بالثانوية العامة) في القضية رقم 57 لسنة 2012 في المكتب الفني للنيابة الإدارية، وهي مخالفات وقعت بتسهيل من مسئولين بالوزارة وقت تولي الدكتور إبراهيم غنيم منصب وزير التربية والتعليم. أما ثالثة الأثافي فمشاركة السيدة ألفت عبدالرحيم فرغلي فيما يمكن اعتباره جريمة إهدار أموال التأمين علي الطلاب ضد الحوادث التي يتم تحصيلها من الطلبة والطالبات كل عام ضمن المصروفات المدرسية تحت مسمي رسوم خدمات إضافية، في صورة حوافز إثابة للعاملين بالإدارة العامة للتأمين علي الطلبة والجهات المعاونة بالمخالفة للائحة التي تحدد قواعد وضوابط الصرف من تلك الحصيلة من خلال عرضها علي الوزير المذكرة المقدمة من مدير عام الإدارة العامة للتأمين علي الطلبة السيد/ عادل سيد شحاتة بتاريخ 28 ديسمبر 2011 لاعتماد صرف الحافز بواقع 150% من الراتب الأساسي شهريا للعاملين بالإدارة، و100% من الأساسي للجهات المعاونة وعددهم 15 فردا، وكذلك صرف حافز للعاملين بالإدارة العامة للتوجيه المالي والإداري وقدره 3 آلاف جنيه لكل منهم تصرف علي دفعتين نصف سنوية بواقع 1500 جنيه للدفعة. وكأن الوزارة تقوم بتحصيل رسوم التأمين علي الطلاب ضد الحوادث من ذويهم، لا لكي تغطي أولا مصروفات تعويضهم في حال وفاة أحدهم في حادث، وتسديد مصروفات علاج من يتعرض منهم للإصابة بحكم تمتعهم بمظلة التأمين ضد الحوادث وتسديدهم الرسوم المطلوبة منهم أول كل عام، ولا لتقديم المساعدات الاجتماعية وإعانات العلاج والأجهزة التعويضية، والمبادرة بالتدخل السريع وتقديم المساعدات العاجلة لأسر الطلاب المتضررين في حالات الكوارث والحوادث الطارئة وغيرها من الحالات الاجتماعية المختلفة، كما تقضي اللائحة المعيبة التي صدرت بموجب قرار وزاري عام 1988، تم تعديله بقرار وزاري آخربعده بعامين، ثم عدل مرة أخري عام 1993 لزيادة قيمة مبلغ التأمين المقرر، ثم اعتمدها وزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور يسري الجمل بتاريخ 1 يونيو 2009 ، وإنما لتوزيعها علي العاملين بالإدارة بهذه الصورة السخية أيضا وفقا للائحة!! أمر مضحك ويدعو للسخرية، ويستدعي تكرار ما قاله الشاعر الكبيرأبو الطيب المتنبي لدي زيارته للمحروسة منذ قرون طويلة : وكم ذا بمصر من المضحكات .. لكنه ضحك كالبكاء. التأمين علي الطلبة ضد الحوادث إجباري وليس اختياريا ويصدر به قرار وزاري كل عام لتحديد قيمته ضمن المصروفات المدرسية، وقواعد صرف متحصلاته لا تسمح بتقديم أي تعويض أو مساعدة من أي نوع لأي طالب، والمسئولون استمرأوا المسألة ولم يتوقف أي منهم لإعادة النظر في هذه المهزلة، والغريب في الأمر أن تأشيرات الوزراء كلها علي مذكرات العرض المعيبة أيضا : لا مانع طبقا للقواعد!!! علما بأن إدارة التأمين علي الطلبة تقوم بصرف لجنة قدرها 600 يوم لجميع العاملين بالإدارة بواقع 7% من الراتب الأساسي سنويا نظير هذا الجهد من بند مكافآت بالباب الأول من ميزانية الوزارة، إضافة إلي حافز الإثابة المشار إليه! فعن أية قواعد يتحدثون؟ عن صرف حوافز إثابة تبتلع ميزانية العلاج والتعويض بالكامل وليتها تكفي المكافآت وحدها؟ أم عن مكافأة العاملين علي عمل لا يتم علي الوجه المأمول؟ بذريعة قيامهم بجهد في مواجهة الحالات الطارئة حتي في أيام الإجازات وفي غير أوقات العمل الرسمية بالدقة والسرعة المطلوبة كما جاء بالمذكرة التي عرضتها السيدة ألفت علي الوزير لتبرير زيادة نسبة 5% إضافية شهريا تحت هذه المزاعم .. ليوافق عليها الوزير وفقا للقواعد؟ هل يتبقي من الميزانية شئ بعد هذا البذخ؟ والمعلوم بالضرورة أن كل ما يتم تحصيله من رسوم يجب وفقا للوائح وضعه في حساب مغلق بالبنك المركزي باعتبارها أموالا أميرية ليتم الصرف منها علي التعويضات التي تقدرها حال وقوع حادث. وتبقي آخر المخالفات وأكثرها إثارة للجدل، وهي ندب السيدة ألفت عبدالرحيم فرغلي بقرار وزير التربية والتعليم الحالي الدكتور محمود أبو النصر رقم 394 الصادر بتاريخ 26 أكتوبر 2013 مديرا لمديرية التربية والتعليم بالمنوفية وهي درجة وظيفية تستلزم أولا أن يكون من يشغلها منتميا لمجموعة تعليم، وليس منتميا لمجموعة وظائف تمويل ومحاسبة كما هو الحال، وألا يكون متورطا في إهدار ملايين الجنيهات ومستبعدا من المناصب القيادية والأعمال المالية كما هو ثابت في حالة السيدة ألفت، والذي يعني أن الوزير تجاهل أمرا تنفيذيا أصدره بنفسه بقرار يحمل رقم 252 بتاريخ 25 يوليو 2013 بندبها مديرا عاما للإدارة العامة للاتحادات الطلابية بالعجوزة من وظيفتها غير القيادية بقطاع الكتب!! المخالفة هنا فضلا عن كونها صادمة للعاملين بالوزارة متعددة الجوانب، أولها أن الندب لمنصب مدير مديرية يعني منح أكثر من ترقية في قرار واحد لدرجة وكيل أول وزارة بالمخالفة للقانون وهو أمر غير جائز، وترقية غريبة لاختلاف التخصص فالسيدة ألفت ليست معلمة ولم تتدرج في السلم الوظيفي حتي تكون مؤهلة لإدارة مديرية تعليمية، كما أنه لا يجوز ترقية من تعرض لعقوبة إدارية بالاستبعاد من منصبه لأسباب تتعلق بإهدار المال العام، وتسهيل الاستيلاء عليه، بالمخالفة للمادة 489 من اللائحة المالية للموازنة والحسابات الحكومية، والتي تمنع كل من حوله شبهة فساد مالي من تولي وظائف قيادية. كم كنت محقا يا متنبي في وصفك لبلادي.