الضوء باهر.. باهر, لا اتذكر ان كان ضوء الشمس ام ضوء مصباح ضخم, الساحة ايضا واسعة وموحشة كأني اراها للمرة الاولي, لكن ظل الولد كان اكبر منه وهو يعطيني ظهره ويعدو. اعدو, بكل طاقتي, وراءه, فأنا وحدي احسست بحرقة قلب امه منذ فارقها امرق داخل ازقة وممرات ضيقة, تظهر علي جانبيها ابواب, بعضها موصد, وبعضها ينفتح وينصفق بعنف عند بلوغي اياها دون ان يطل منها احد. العرق يغمر جسدي, ملحه يلهب لساني, ثوبي المبتل يلتصق بنهدي المنتفخين, وحذائي يوشك ان ينخلع من قدمي المسرعتين. يختفي الولد. اتوقف, ثم المح طرف ظله باتجاه طرقات اخري اكثر غرابة, فاغير اتجاهي واعاود العدو. يتواري الظل فلا اتوقف. يختفي الضوء الباهر فجأة, وتحل ظلمة كثيفة وانا اجتاز الممرات الضيقة,اتحسس الجدران كي لا اصطدم بها. اعدو.. خائفة من فقد اثره, من الاصطدام بالجدران, من التيه, من السقوط والارتطام بالارض, من انفتاح احد الابواب فجأة يطل منها شيء مجهول, من مباغتة الولد لي بإحدي الاعيبه المدهشة.. كان صغيرا.. صغيرا عندما لفوه في الاقمطة البيضاء ووضعوه بفرح, في المنخل الكبير الذي يخص الجدة العجوز ذات الوشم المميز فوق جبهتها. راحوا يهزون الغربال ويطيرونه في الهواء فتبتسم الجدة باسي وتهتز الارائك والوسائد وينتفض قلب امه همست بوجل: انتظرته طويلا. كانت رائحة المسك والزعفران تملأ الجو عندما اشاروا للمبخرة واعطوه لها امرين: خطي الاولة.. باسم الله والتانية..باسم الله والتالتة لاحول ولاإلا والخامسة..حصنتك من كل من شافك ولا صلي رشوا الملح ثم علقوا فوق قلبه خرزة رزقاء فبكي. ضمته والقمته ثديها ومسدت بأناملها خده الطري وغنت: نام نام وانا اجيبلك جوزين حمام اغمض عينيه وابتسم فكبر خده. يعود الضوء فجأة, لكنه ليس باهرا هذه المرة, بل شاحبا كضوء مصباح فلورسنت ضعيف او كأول خيط من خيوط الفجرك اري امي هناك.. بجلبابها المشغول بخيوط زاهية, وطرحتها البيضاء الملتفة حول وجهها وعنقها كهالة نور امي جالسة فوق عشب ازرق, وانا.. صغيرة رأسي نائم في حجرها, وشعري الطويل ينسدل مفترشا العشب. تبتسم وهي تجلسني برفق امامها وتلملم شعري المهوش, وتضفره لي تغني بصوت هادئ وهي تعقد ضفيرتي بشريط ازرق, ثم تضع راسي, مجددا, في حجرها وتهدهدني فينسدل جفناي قبل ان اغفو تطالعني, من بين الشجيرات النضرة, عين الولد كبيرة لامعة تحدق باتجاهي ثم تختبيء في تشابك الفروع انهض متجاهلة دهشة امي اتخابث عليها بغمغمات وهمية كي اهرع وراءه. يتواري اتلفت حائرة ثم المح طرف ظله باتجاه اخر فاعدو دون ان اودع امي. تحت الظلال المتقطعة لشجرة لم تورق بعد, كان يقف الشيخ العجوز عندما حدق بخطوط كفه الصغير ثم رفع نحو امه وجها خاليا من التعبير, ولم يفتح فمه الا وهو يلتقط فراشة حمراء حطت فوق شعرها. يبتسم بما يشبه ابتسامة قديمة هامسا: الفراشة الحمراء اجمل الفراشات.. لكن عمرها قصير! وضع الفراشة في كفها فبقيت ساكنة بلا حراك. يباغتني الولد بعيدا عن ظله يحتضنني. يدي الصغيرة جدا عما هي عليه تحتضن يده الصغيرة يبتسم الولد, فيكبر خده, يكبر الولد, وانا.. صغيرة.. صغيرة اضع رأسه في حجري واغني. اوصيه الايبكي كثيرا بعد موتي فينفجر في الضحك, ويضحكني معه. الدخان يملاء الجو ويغطي وجوه الرجال, الذين انكفأوا يعالجون اثار الدمار الذي حل بالبلدة, بسناج اسود. اخبرني احدهم ان الولد كان في حضن امه قبيل ثوان من اختفائه, دون ان يتواني عن تحميلها مسئولية ماحدث وحكي اخر عن انضمامه لسرب الفراشات الملونة التي افزعها الضجيج والدخان ففرت بعيدا, وتهامس اخرون عن رجال المعاطف البيضاء الذين استماتوا في محاولة انقاذه. يغز احدهم قلبه بالابر والعقاقير. يتألم الولد ويصغر خده. الألم احسه في قلبي. لماذا لا ينتبهون لصوتي؟ اخبروني ان احدهم لمحه في مكان غير بعيد. اعدو, بكل قوتي وراءه اود لو اضمد جراحة افتش عنه في العشب الازرق, في غربال الجدة العجوز, في خيوط جلباب امي, في افرع الشجيرات التي احترقت قبل ان تورق, في لفائف صحف قديمة بقيت بعد زوال ممالكها, في كومة احشاء منتزعة من اجسادها راقدة بجوار باب المشفي المتهدم, افتش فلا اجده. اريد اعادته الي حضن امه. اريد ملامسة خده الطري. كان في حضن امه عندما انطلق الصفير, فاحتضنته اكثر. كانت تخاف عليه من الهواء الطائر ومن القلوب الحاقدة ومن كل من شافه ولا صلي تخاف عليه من ازيز الطائرات وقعقعة المدافع ودوي الانفجارات, لذا خباته بين نهديها وضمته اكثر.. اكثر, ربما, مما ينبغي او ما يمكنه ان يحتمل اخبروني انهم افلتوه من حضنها بصعوبة.. عند حافة الرمال الصفراء يظهر الشيخ العجوز بوجه اكثر تجعيدا ولحية مبعثرة اتسخ بياضها بلون الرماد, يلملم بيديه المرتعشتين شعري المهوش ويضفره لي دون ان يبتسم ثم يعقد ضفيرتي بشريط اسود. يشير لصخور بعيدة وصبارات وشواهد قبور صغيرة.. صغيرة, ثم يصيح وهو يدفعني بحسم. عودي. افكر بالولد.. ثم التفت مخلفة له في اثري قطرات اللبن التي لم تجف من نهدي بعد.. خيطا ممدودا فوق العشب الازرق.