لا يحتاج محمد البساطي إلا للاشارة البعيدة والتي تبدو وكأنها تلامس السطح فقط. ولا يهمه إلا أن يحوم ولا يهبط, يبدو وكأنه يكتشف العالم الذي يكتب عنه أثناء الكتابة فقط وعبرها, وكل جمله مستقيمة واضحة وكأنها مشطوفة مع ذلك فهي تثير اللبس دائما وفي روايته الفاتنة الأخيرة غرف للايجار الصادرة عن قطاع الثقافة في أخبار اليوم تتجسد بقوة أغلب ملامح الكاتب الكبير منذ روايته صخب البحيرة 1994- وهي الملامح التي نحتها البساطي وحفرها بدأب واصرار عبر خمس وعشرين رواية ومجموعة قصصية بدأ نشرها عام1967 بمجموعته التي لايبلوها الزمن الكبار والصغار, ومضي يؤكدها ويضيف عليها بل وينقلب عليها أحيانا.يكاد البساطي ينفرد بين أبناء جيله بأن كلا الشكلين الرواية والقصة القصيرة لها الأهمية نفسها لديه, واذا كان قد انقطع عن كتابة القصة القصيرة منذ مجموعته الشرطي يلهو قليلا عام2003, فإنه وفي العام الماضي فقط أصدر مجموعته نوافذ صغيرة..والحال ان البساطي عاشق قديم للقصة القصيرة, وأحد كبار العارفين بأسرارها, وأكاد أقول أنه يكتب الرواية بوصفه كاتبا للقصة القصيرة, فهذا الاحكام المقتدر, والتطبيق الأمثل لنظرية جبل الثلج الذي لاتبدو إلا قمته فقط ظاهرة للعيان, وهذا الاكتناز والتكثيف والاشارات الحريصة علي عدم التورط.. كل هذا من أسرار القصة القصيرة التي يكتب بها البساطي أعمال الروائية المتتالية.أما روايته الأخيرة غرف للإيجار فهي عدة روايات وليست مجرد قسمين فقط, علي الرغم من أن عدد صفحاتها لم يتجاور107 صفحات, لكنه ذلك التكثيف والاستبعاد ثم المزيد من الاستبعاد, مما يتمز به البساطي, مع قدر وافر من الحرص علي وجود مسافة كافية لا تمنعه من التورط والغنائية فقط, بل تسمح له بذلك الحياد المزعوم( لا حياد في الكتابة وفي الحياة بطبيعة الحال) لكنه حياد يتيح له أن يرسل الرسالة التي يريد ارسالها للقاريء صافية نقية, وعلي الأخير أن يختار بعد أن يتلقي الرسالة علي النحو الذي أراد الكاتب إرسالها إليه.وإذا كان القسم الأول من غرف للإيجار تدور أحداثه في أحد البيوت القديمة, فإن القسم الثاني تدور أحداثه علي سطح أحد البيوت. وإذا كان القسم الأول مكتوبا بضمير الغائب, فإن الثاني مكتوبا بضمير المتكلم, إلا أن كل هذا لضرورات فنية كما سوف أحاول أن ابين. في القسم الأول: الشقة في بيت قديم. من ثلاث غرف بكل غرفة عائلة. الباب الخارجي مفتوح ليل نهار. لايوجد في الصالة مايخشي عليه, وكل عائلة تغلق باب غرفتها علي نفسها فأشيائها. حسبما قدم البساطي هذا القسم. والحقيقة أن كل غرفة من الغرف الثلاث التي تضمها الشقة لاتحتوي علي مجرد عائلة, بل عالم كامل يموج ويضطرم, مقموع علي نحو ما, وفي الوقت نفسه يتدفق بالحياة, بمرها قبل حلوها.في الغرفة الاولي كان أول من جاء هو عوضي الفوال صاحب عربية فول مدمس, أتي بامرأته فاطمة من احدي مدن الصعيد. مشكلة عوضي قصر قامته, لكنه مع ذلك وربما بسبب ذلك يمارس أقصي درجات العنف مع فاطمة الابنة الفقيرة لأسرة فقيرة, وكان المفروض أن يمثل لها نقلة في حياتها تبدأ بالانتقال إلي العاصمة الكبيرة لكن حياة فاطمة في العاصمة أكثر فقرا في كل شيء, ولا يسليها إلا ذلك الاثم الصغير الذي ارتكبته وهي مرعوبة, حين تواطأت مع ساكن يقبع في الأسفل, وكثيرا ماكان يختلس فناجين القرفة باللبن التي تضعها في السلة وتدلي الحبل ليحتسيها زوجها.هي لم تشك لزوجها بل كانت تضع فنجانين في السلة, وعلي الرغم من انها لم تر الساكن مطلقا إلا أنها كادت تموت من الخوف, فالساكن يمد يده ويخطف الفنجان.في الحجرة الثانية جاء بدوي الفران مع عطيات زوجته التي كانت تعمل خادمة عن الست نوال قبل زواجها. المرأتان مقموعتان مخنوقتان من زوجيهما ومن الدنيا, وتنشأ بينهما علاقة بالغة الرهافة بحثا عن حنان ما,عن نسمة واحدة, عن علاقة انسانية حقيقية دون جدوي, وينتهي الأمر بهما الي الحب.أما الحجرة الثالثة فقد شغلتها هانم كانت تعمل خادمة مثل عطيات تزوجت عثمان الأجري في السكة الحديد, يصلح مايتهاوي من الفلنكات الخشبية تحت القضبان وإنجبا طفلهما يوسف ذا الست سنوات, وتتنقل الأسرة وراء عمل الزوج هنا وهناك حتي يستقروا في القاهرة, ويسكنوا في الحجرة الأخيرة في الشقة.تلك هي الخطوط العريضة للعائلات الثلاث,يبدو الكاتب وكأنه يرصد سطحها فقط ويلامس حياتها من بعيد, لكن بقليل من التأمل, يمكن للقاريء أن يكتشف بيسر الي أي مدي تنطوي هذه الحيوات الثلاث علي عنف مكتوم واحباط متبادل وعدم تحقق يصل الي منتهاه وخبرة الكاتب العريضة بالكتابة تمنحه تلك القدرة الفذة علي عزف النغمات الثلاث للعائلات الثلاث في الوقت نفسه, ومن خلال الاعتماد علي التفاصيل الصغيرة العادية تفاصيل الحياة اليومية التي سرعان ماتتحول الي مايشبه الكابوس الذي يقبض الروح علي الرغم من أنها لاتتجاوز مايحدث لنا جميعا يوميا. لايحدث شيء إذن إلا قرب نهاية القسم الاول حين تشتعل النار في الفرن وينجو بدوي الفران بعد أن تلتهم النار اذنه وجانب وجهه, ويعرف طريقه الي البوظة, وعندما يعود مخمورا الي بيته آخر الليل, وبدلا من أن يدخل حجرته كعادته كل ليلة, يدخل حجرة جاره عثمان ويستلقي نائما علي الفور وتحدث الفضيحة بالطبع عندما تكتشف هانم أن بدوي الفران ينام بجانبها. رواية البساطي تبنيها التفاصيل وتقودها التفاصيل, لذلك لم يكن غريبا أن يكون الحوار قليلا متناثرا, لكن البساطي الذي يحمل خبرة25 رواية ومجموعة قصصية, يستطيع أن يكتفي بأقل التفاصيل محايدا قدر الامكان, لايتورط عاطفيا مع كل هؤلاء الذين يدفعون الكاتب دفعا نحو التورط.ثم يضرب البساطي ضربته الثانية في القسم الثاني من الرواية, كتب في تقديمه لهذا القسم: غرقت فوق السطح تشغل ركنا من الجانب الأيمن, تطل علي رأس السلم, أوارب الباب وأري من رقدتي الأقدام التي تهبط وتصعد, وقد يمر يومان أو ثلاثة لا أري قدما, وعندما أراها أظل في رقدتي لا أتحرك, صاحبها لايقصدني, فلا أعرف احدا يمكن أن يزورني, وأسمع الخطوات في طريقها الي الغرفة الأخري. وشأن القسم الأول سنري ثلاث غرف تنطوي علي ثلاث حيوات تتصادم في هذا الفلك الفوضوي الممتد علي السطح العالي, ويحكي عباس الموظف الغلبان وبضمير المتكلم مايجري لجيرانه. وفي الحجرة الاولي تسكن عزيزة وزوجها المقعد, وتعتمد علي صاحبنا عباس في كل شيء بما في ذلك مساعدتها في استحمام الرجل المقعد المشلول, والثانية تسكنها هانم التي سبق لنا أن رأيناها في القسم الاول وكل ماحدث أن زوجها قرر تركها فجأة بعد فضيحة بدوي الفران, وتقلبت بها الدنيا,لكنها تأمن لعباس وتعتمد عليه فيما يتعلق بابنها والحجرة الثالثة يسكنها عجوز يغني للسكاري في البارات في آخر الليل ومعه حفيدته الطفلة الصغيرة وقد سبق للقاريء أيضا أن رآهما في لمحة خاطفة عندما كان بدوي الفران يحتسي البوظة, وبدوره يعتمد العجوز علي عباس ويأمن له, بل وترك له الطفلة الصغيرة وغاب. تلك هي الخطوط العريضة للقسمين, تربط بينهما وشائج وعلاقات خاصة ربما بدت بعيدة علي السطح, لكن الحقيقة أنها تكشف عن ذلك العالم المهمش للخائفين من الفضيحة, للمقموعين, للفقراء الذين لايملكون حتي عواطفهم, لكن البساطي وتلك هي مأثرته الكبري لايتورط معهم أو يذرف الدمع عليهم, إنه يكتبهم ولايكتب عنهم, وفي هذا السبيل لجأ الي كل الحلول والحيل التي منحت عمله كل تلك الحيوية, وأدت الي أن يكون سرده مدهشا الي هذا الحد وغنيا بالضمائر المختلفة, بالفصول القصيرة, بضربات الفرشاة السريعة, بالجمل الواضحة واللغة الناصعة منحنا محمد البساطي نحن القراء عملا مكتزا كثيفا للسطح والقاع معا..ومنح الرواية العربية إضافة كبري تليق بكاتب كبير.