لا أظن أن هذا الاجماع الذي انعقد للراحل الكبير محمد سيد أحمد مصادفة علي الاطلاق, خصوصا أن الاجماع لم يأت من جانب زملائه ورفاقه في الحركة اليسارية فحسب, بل ان التيارات والمنابع الفكرية المختلفة أجمعت علي اعتباره رجلا من طراد فريد قديسا علي نحو ما قادرا علي أن ينظر أبعد من الجميع فيري مالانراه. وفي كتاب محمد سيد أحمد...لمحات من حياة غنية الذي أصدرته أخيرا دار الشروق وحررته علي نحو ممتاز ومكتمل مني أنيس, يمكن للقاريء, بفضل الاعداد والتحرير الجيدين أن يتعرف علي كل جوانب هذه الشخصية الغنية المؤثرة فيمن حولها. ضم الكتاب ثلاثة أقسام شملت تقريبا كل مايتعلق بالراحل الكبير, وتضمن القسم الاول ذكريات عائلية شهادات تقطر صدقا لزوجته وابنائه وشقيقته وصديق صباه, وفي القسم الثاني سنوات الصراع شهادات لزملائه ورفاقه في الحركة الشيوعية, بينما تضمن القسم الثالث تحية.. شهادات عنه وحوله من عدد كبير من الكتاب والمفكرين ينتمون لمختلف أطياف التيارات السياسية وأخيرا تضمن القسم الرابع هكذا تكلم محمد سيد أحمد شهادة كان الراحل قد قدمها للجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية في تسعينيات القرن الماضي. ولد محمد سيد أحمد عام1928, وتكاد سيرته الذاتية تتطابق مع الكثيرين من أولاد الذوات الذين ارتبطوا بالحركة الشيوعية خصوصا في حلقتها الثانية بين الاربعينيات ومنتصف الستينيات, ورفضوا طبقتهم الاجتماعية وأصولهم الاستقراطية, وانخرطوا في صفوف الحركة الشيوعية وقدموا من أجل أفكارهم وقناعاتهم تضحيات هائلة, ولا أعني بالتضحيات السنوات العديدة التي أمضوها في معتقلات الملك والناصرية فقط وماتعرضوا له من تعذيب واهانة في سلخانة أوردي أبو زعبل أو سجن المحاريق بالواحات, ولا أعني أيضا ما أنفقوه ماديا فقط, بل ان الأهم فيما أظن هو تلك التجربة الروحية الكبري الكامنة في الانسلاخ عن طبقته بكل ماتشمله, والانتقال الي طبقة اجتماعية هي علي الضد من طبقتهم وأصولهم. وحسبما أوضح محمد سيد أحمد في شهادته التي كان قد قدمها للجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية فإن والده كان محافظا للسويس ثم الفيوم ثم بورسعيد, بينما كانت عمته زوجة لاسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء السابق. وهكذا نشأ ابن الاكابر وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال وكانت المرة الاولي التي يسمع فيها عن الفكر الشيوعي, عندما دعا والده صديقه محمود عزمي الذي كان شخصية مرموقة آنذاك ومتزوجا من روسية ذكر محمد سيد أحمد امامها أنه يشعر بأنه ليس مصريا, فهو لايعرف العربية وثقافته فرنسية وانجليزية, وهي أزمة نفسية كانت تلقي بظلالها علي شخصيته وهو في مطلع الصبا. دعته السيدة الروسية الي حفل شاي لأولاد الذوات في منزلها, وحصل علي أول كتاب عن لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا, وفتح الكتاب عينيه علي عالم مختلف وعندما التحق بالليسيه فرانسية تصادف أن كان أحد مدرسيه مدرسا شيوعيا فرنسيا هو رينييه جرانييه يقرر سيد أحمد أنه رباه وكان له أعظم الأثر علي بل وربي أشخاصا كثيرين ممن كان لهم شأن في تاريخ مصر, أذكر منهم شهدي عطية الشافعي وأنور عبد الملك. ومن الليسيه عرف طريقه الي دار الابحاث العلمية التي أسمهت في تشكيل وعي النخبة اليسارية, وكانت مرتعا للندوات والمحاضرات, وانتهي به الأمر الي الانضمام لمنظمة الايسكر السرية..منذ هذه اللحظة سيتعين علي محمد سيد أحمد أن ينسلخ عن طبقته, وأن يرتبط بقناعات جديدة الي الأبد, بل انه ارتبط بأكثر المنظمات تشددا وتطرفا وحسبما حكي في شهادته سالفة الذكر أنه سافر الي فرنسا استجابة لرغبة أبيه الذي كان يريد إبعاده بأي شكل, وبدلا من أن يدرس, أرسل لأبيه أنه لن يستطيع تنفيذ رغبته وعاد بالفعل لينضم لقيادة التنظيم منعزلا علي مدي عامين وقد بلغ من تطرف هذا التنظيم أن أعضاءه بعد القبض عليهم ودخولهم السجن كانوا وفقا لما كتب: لانتكلم مع الآخرين طيلة الفترة التي قضيناها بالسجن, بدعوي أن كلهم بوليس وقد وصلت الأمور الي درجة أن أحد زملائنا, كريم الخرادلي, وقد حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات, وكان طالبا عبقريا في كلية الهندسة ووجد ذات مرة الحل الصحيح لمسألة ظلت تدرس بطريقة خاطئة لمدة عشرين عاما, أرسل الي سجن الواحات, ولم يكن يتحدث الي أي انسان لأنه كان السجين الوحيد المنتمي إلي منظمتنا وسأله مأمور السجن ذات مرة: لماذا لاتتحدث الي أحد؟ قال: لأنهم جميعا مباحث فقال له المأمور: هل تعتقد أنك من الأهمية بحيث أن الدولة تبني لك سجنا وتملؤه مباحث من أجلك أنت دون سواك؟..!! علي أي حال, درس محمد سيد أحمد بعد ذلك في ثلاث كليات الهندسة والحقوق والفنون الجميلة, وسجن عامين في المرة الاولي, وأسس دار الديمقراطية الجديدة للنشر, ثم اعتقل مرة أخري منذ عام1959 وحتي1964 وعندما خرج بعد حل الحزب التحق بالأهرام كاتبا, وخاض كل معاركه السياسية والفكرية حتي رحيله عام2006, متمتعا باحترام المخالفين والمختلفين مع آرائه وأفكاره قبل المتفقين معه. من جانب آخر حرصت مني أنيس محررة الكتاب علي أن يتضمن القسم الأول من الكتاب شهادات عائلية لمحات بالغة الرقة والانسانية من حياة الكاتب الكبير, فزوجته السيدة مايسة طلعت رأت أنه كان انسانا رقيق المشاعر مستعدا لبذل أقصي مالديه في سبيل مايؤمن به دون أن يميل أبدا الي المواجهات بمحض اختياره كان يتمتع بحس قوي بذاته دون أن يكون أنانيا أبدا, ويتمتع بالكبرياء دون أن يكون مغرورا أبدا وكان شديد التمسك بقناعاته ومعتقداته ولكن مع أكبر قدر من التسامح, ومتبعا لقواعد أخلاقية صارمة دون إصدار أحكام علي الغير بينما رأت شقيقته السيدة هدايت سيد أحمد أنه سواء في الحب أو السياسة, وسواء في حياته العامة أو الخاصة, كان اخلاصه واستقامته واحساسه الرقيق وعقله الفذ يحكم كل قرار أو تصرف يصدر عنه وعندما تدهورت صحته وبدأ يعاني من ضعف الذاكرة حارب من أجل الحفاظ علي كبريائه وكرامته وقوته وحبه لزوجته التي وقفت دوما بجانبه, وولديه وأبنته وأخيرا أصدقائه الكثيرين. وتؤكد السيدة نايرة عجة ابنة زوجته أنها محظوظة لأني كنت جزءا من حياة محمد سيد أحمد, وكان هو جزءا من حياتي كثيرا ما أتساءل عن شكل حياتي لو لم يتوف والدي, ولو لم تتزوج أمي من محمد سيد أحمد؟ الرد ببساطة شديدة هو: لا أعرف, ولكن ما أعرفه علي وجه اليقين هو أنني كنت سأحرم من معرفة هذه الشخصية العاطفية الغنية الفذة. وفي الشهادة التي كتبها ابناه التوأم طارق وعمرو العالمان الرياضيان يذكران:: ان والدنا يتمتع بقدرة كبيرة علي التواصل مع كل فئات المجتمع. وتذكر والدتي أنه بعد زواجهما, وكان ذلك بعد خروجه من المعتقل بقليل, جاء بائع اللبن يدق باب المنزل, وعندما فتح والدي الباب أخذه بالحضن, واتضح أنهما كانا نزيلي زنزانة واحدة. كما نذكر أنه أثناء مرضه منذ سنوات عديدة, ورغم منع الزيارة عنه, كانت والدتي تستقبل كل يوم علي مدي شهر كامل كلا من الأستاذ محمد عبد القدوس والعامل الشيوعي محمد علي عامر وهو مانعتبره دليلا علي قربه من جميع التيارات الفكرية.. والواقع ان الراحل الكبير لايحتاج الي سرادق عزاء, ولايمكن أن يكون رحيله مناسبة لذرف الدموع عليه, وهو ما أدركته مني أنيس جيدا وقدمت تحية تليق بقامة وبحجم محمد سيد أحمد, وسعت لأن يكون الكتاب اسهاما في ذكراه وتركيزا علي الجوانب التي ستظل باقية في انجازه الفريد, فقد كان الرجل حسبما أوضح وأكد أصدقاؤه ومحبوه يري مالانراه ويستشرف المستقبل بحساسية فائقة, وفي كتابه الشهير بعد أن تسكت المدافع بكل ما أثاره من غبار المعارك بعد اكتوبر1973, يظل نموذجا علي الرؤية الثاقبة والبعيدة, وماكتبه عن معارك المياه القادمة قبل أن ينتبه الجميع بعد5 سنوات, ستظل أيضا دليلا علي هذه الرؤية الفريدة. وأخيرا أكرر لايحتاج محمد سيد أحمد الي سرادق عزاء, فهو أكبر من مجرد العزاء, وهذا هو بالفعل أهم انجاز للكتاب.