كان اللقاء لتناول وجبة الإفطار مع مجموعة من الأشقاء العرب, وارتفع صوت أحدهم متسائلا: هذه الأصناف التي أمامنا هل تستوردونها من الخارج؟ ولم ينتظر اجابة, وانما أضاف: تتحدثون في إعلامكم عن المواد الصلبة والضارة في طعامكم فضلا عن المياه الملوثة, وهي أمور نعرف أنها تخالف الحقيقة وتشوه الواقع, وأخشي أن نصل يوما الي حد الادعاء بأننا نحب مصر أكثر مما يفعل أبناؤها.. انطلق الحديث بعد ذلك صريحا وساخنا حول مختلف الموضوعات التي تشغل العقل العربي هذه الأيام وكنا في كل قضية نعود الي مصر وموقفها ودورها.. ومرة أخري يرتفع صوت ضيف آخر ليسأل: لماذا تكثرون من الجدل حول الدور المصري في صحافتكم والبرامج الفضائية, أنتم الدولة العربية الوحيدة التي تفعل ذلك, لم نسمع أو نري من يطرح الدور المغربي واللبناني والخليجي واليمني والسوداني, هل تبحثون عن شهادة يومية يوقع عليها العرب بأن الدور المصري هو الأساس وهو الرائد ولا غني عنه؟.. يا أخي والحديث لايزال للضيف عندما غاب الرئيس مبارك عن القمة العربية الأخيرة في ليبيا, لم تعقد القمة برغم انعقادها رسميا, وبرغم وجود وفد مصري رفيع المستوي, ولكن وجود الرئيس مبارك يعني الكثير والكثير من القرارات والمواقف ذات الصلة بالقضايا المصيرية والمصالح العليا للأمة.. نريدكم أكثر ثقة بالدور المصري دون الحديث المتواصل عنه وطرح مثل هذه الآراء الساذجة التي تملأ الصفحات والفضائيات وهي تسوق لبلدان أخري تقول انها قد انتزعت هذا الدور.. وحان الوقت للرد, وقلت كل ملاحظاتكم تندرج في تلك المساحات الواسعة لحرية الرأي والتعبير في مصر, ولا مجال للعودة والارتداد في تجربة نفتخر ونعتز بها مهما يمكن بها من سلبيات وتجاوزات.. ولكن الدهشة اصابتني من كلمات ضيف ثالث يقول: نحن أيضا نعتز ونفتخر مثلكم تماما بهذه الحرية, والسبب اننا علي ادراك ويقين بأن ما يحدث اليوم في مصر سوف يحدث مستقبلا في بقية البلدان العربية, هكذا تجري الأحداث, وانما نحن نعلق علي ظاهرة تثير الغضب في نفوسنا, وعندما نأتي للاستثمار مثلا في المشروعات الغذائية فإن الصفحات والبرامج تركز علي نسبة التلوث والتشكيك في مكونات الصناعة المصرية, وخذ مثلا الجبنة البيضاء ذات الشهرة والتي يبحث عنها المستهلك العربي, هل تتصور أن الدنمارك وبعض البلدان الأوروبية والعربية تقوم بكتابة نكهة مصرية علي الأنواع التي تطرحها في السوق لضمان رواجها, في حين أن المنتج الأصلي يتعرض لحملات ظالمة تقضي عليه, وقد يكون هناك انحراف ومحاولة للغش ولكنها تبقي استثناءات يجب التصدي لها بالوسائل الرقابية المعروفة وتوقيع أقصي العقوبة علي مرتكبيها دون الاساءة لمجمل الصناعة المصرية, وهذا ما نتحدث عنه, البحث عن الإثارة يدفع البعض في وسائل الإعلام الي التعميم وهو يوقع أشد الأضرار بالمستثمرين وفي قدرتهم علي المنافسة, خاصة في الأسواق الخارجية.. ويعود الضيف الأول الي التقاط طرف الحديث قائلا.. لقد تعمدت القيام بجولات داخل الأسواق في القاهرة, رأيت الخبز الساخن في الأفران وهو ليس بالصورة التي تزين الصفحات الأولي والبرامج التي تذهب الي كل بيت من المحيط الي الخليج وتجعله رديئا وبالقمح السرطاني ومليئا بالطوب والزلط, وكذلك الخضراوات التي تقولون إنها قد رويت بمياه الصرف الصحي ولم تتركوا شيئا إلا ووجهتم الشكوك ناحية سلامته وصلاحيته, ولن أتحدث عن اللحوم التي جرت محاولات لربطها بما يعثر عليه من أشلاء الحمير والكلاب الضالة.. لماذا تفعلون هذا بأنفسكم وبمصر؟ انه السؤال الذي لا نعرف اجابته في الوقت الذي تسعي فيه الدول الأخري والتي تعاني حقيقة من مشكلات مزمنة لتجميل اوضاعها, انظروا الي لبنان, هناك دائما مسابقات ومهرجانات لأشهر المأكولات والترويج للمناطق السياحية علي الرغم مما نعرفه جميعا من أزمات سياسية وأوضاع قابلة للانفجار في أي لحظة, وسوريا تملأ الدنيا بحملات دعائية عن مشروعاتها السياحية ومحمياتها الطبيعية التي تجذب أموال المستثمرين.. نريد فقط أ نقول أمرا واحدا, ان جميع الدول تصارع من أجل جذب الأموال اللازمة لمشروعاتها ونحن نري وفي ضوء تقارير جادة وحقيقية لن مستقبل الاستثمارات يتركز في مصر, وهناك دول أخري تعطي حوافز جاذبة ومنها قطر والمغرب والسودان, ولكن تبقي الأولوية المطلقة لمصر ليس فقط حبا لها برغم الاقرار بذلك ولكن لأسباب موضوعية, لأننا هنا نتحدث عن أكبر اسواق المنطقة بلا منافس, لدينا أكثر من ثمانين مليونا يشكلون قوة ضاربة لا تضاهيها أسواق أخري حتي الخليجية منها, وذلك لأن المستهلك في تلك الدول قد وصل الي حالة التشبع ولم يعد هناك مجال لزيادة العقارات والسيارات والبضائع الاستهلاكية إلا بنسبة نمو محدودة ارتباطا بعدد السكان, وهذه الميزة النسبية تضع مصر في المقدمة بالنسبة للمستثمرين الباحثين عن مجالات واعدة في المستقبل, ولا أذيع سرا في تأكيد أن الغالبية الساحقة من الشركات الخليجية الكبري تستعد الآن للدخول الي السوق المصرية خاصة في المجال العقاري, والظاهرة التي يمكن تأكيدها أن تلك الشركات تقوم بالاندماج فيما بينها لتشكل كيانات عملاقة تستطيع اثبات وجودها والوفاء باحتياجات هائلة ينتظرها الاستثمار العقاري في مصر بالنظر الي وجود توسعات في المدن الجديدة واقامة المزيد منها لاستيعاب الملايين من الشباب الباحثين عن المسكن المناسب لهم.. كذلك الأمر في الكثير من المشروعات الانتاجية والخدمية التي تنمو بمعدلات مرتفعة مقارنة بما يحدث في البلدان الأخري. واذا كانت الدولة ومن خلال توجيهات مباشرة من الرئيس مبارك تفسح المجال أمام المستثمرين فإن هذا لن يكتمل بدون اجواء اعلامية ملائمة, ونحن لا نطالب بالتستر علي المخالفات والمخالفين أيا كانوا, وانما نطلب التركيز علي أوجه المخالفة وعدم التعميم وعدم الايحاء مخالفة للواقع بوجود قلق سياسي أو اجتماعي لا نراه علي أرض الواقع ولكنه ينحصر في المقالات والموضوعات والحوارات الفضائية التي تتحدث عن انفجار وشيك من الفقراء, وهو أمر لا أساس له من الصحة.. وبعد فترة من الصمت, قال أحدهم بنبرة صادقة.. عذرا من هذه الصراحة, ولكنكم تقولون انها حرية الرأي والتعبير الواسعة التي تعطي الفرصة للجميع, ونحن هنا لنقول مانراه من بعيد, هذه الحرية من وجهة نظرنا يسيء البعض استخدامها, لا نتهم أحدا بأنه يعمل لصالح الدول التي تلهث وراء المستثمرين, ولكن نقول إن مصر لا تحتاج الي عمليات تجميل مثل الآخرين, فقط لا تتعمدوا تشويهها واتركوها تتحدث عن نفسها, بكل مشكلاتها وهمومها, وهي أجمل بكثير مما ترونها.. وغادروا المكان.. وظلت كلماتهم تطاردني وأنا أتناول لقمة خبز لم أجد بها قطعة حجر وانما الطعم الطيب الذي ننشغل عنه ولا نعرف قيمته الحقيقية. muradezzelarab@hotmailcom