لم يؤمن يوما بفكر «أفلاطون»، الذي أظهر تبرمه وانزعاجه من الكتابة في قولته المشهورة التي دافع فيها عن الثقافة الشفهية: « الكتابة تدمر الذاكرة، فأولئك الذين سيستخدمونها سوف يصبحون كثيري النسيان»، بل آمن بقول عباس محمود العقاد: « لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عمرا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. ومن هنا كانت موسوعية قراءات عالمنا الجليل الراحل ، ودأبه البحثي، وبراعة أسلوبه الكتابي في لغة سهلة طيعة – سببا لفهم البسطاء قبل المتخصصين – أعقد قضايا المعلوماتية، ومن هذا التبسيط صنع دستوره الأبدي في العلم، وهو ما أفضى به في النهاية إلى أن يخلد التاريخ إنجازه العلمى الأسطوري، ويكون في مصاف العلماء العظماء الذين يعرفهم الغرب جيدا، ولايعرفهم أبناء جلدتهم، رغم أنه صاحب أكبر إنجارمعرفي معلوماتي وضع به العرب على خارطة الدنيا عبر طريق العلم والثقافة والفكر لآلاف من السنين القادمة. إنه الراحل الكبير «الدكتور نبيل على» عالم المعلومات العربي الفذ، الذي خسره العرب في مرحلة مفصلية من حياتهم، غير مستفيدين من فكره الشمولي الذي يحمل في طياته حلولا سحرية لتعقيدات الاقتصاد والسياسية والثقافة والفن والفكر على جناح المعلوماتية، تلك التي أفنى فيها عمرا يزيد على الثمانية والسبعين عاما بقليل، عاش خلالها زاهدا في محراب العلم والثقافة والمعرفة ، ومات في صمت يوم الثلاثاء 26 يناير الماضي، ولأنه اتسم طوال عمره بالتواضع الجم، فلم تنعه الصحف السيارة كما يليق بمقامه العلمي الرفيع، ولم تنتبه له وكالات الأنباء المحلية والدولية بالقدر الذي يوفيه حقه، ولا حتى الفضائيات السابحة في ملكوته المعلوماتي العربي ألقت بقعة ضوء كاشفة على من فك طلاسم اللغة أمام الحاسوب، معبدا بعبقرية العقل وصفاء الموهبة طريق المعلومات العربية، إلى الحد يعدل فيه إنجازه العلمى «مقدمة ابن خلود» في العصر الحديث – فقد أطال بالفعل في عمر العرب آلافًا من السنين القادمة رغم رحيله المر. نعم يعدل إنجازه العلمي والمعرفي «مقدمة ابن خلدون»، بل إنه تفوق على «سيبويه» عندما نجح في إخضاع حروف اللغة العربية بإبداع العالم المثقف والأديب، وفي سهولة مذهلة لآلة الحاسوب، وفي رشاقة غير مخلة عالج النحو والصرف هندسيا ليتمكن الإنسان العربي من خوض غمار الفضاء التخليلي بلغة الضاد من دون عناء، وكان قبلها هو الذي أدخل تعديلات على الطائرة سوخوى لتكون أسرع فى القذف بعد أن سافر فى مأمورية بقرار من الرئيس عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتى وبعد أن أتم اختراعه لم يملك الفريق صدقى محمود قائد القوات الجوية وقتها إلا أن يمنحه ساعة يد هدية شخصية منه. هو إذن وبحسب تلاميذه ومن عاصروه من خبراء الكمبيوتر والمفكرين والمثقفين وعالمي الإنسانيات شرقا وغربا، أحد أبرز رواد تكنولوجيا المعلومات فى مصر والوطن العربى، منذ أن عمل باحثاً متفرغاً فى بحوث ثقافة المعلومات والذكاء الاصطناعى وتطبيقه على اللغة العربية لأكثر من نصف قرن من الزمن، بعدما أدرك منذ سبعينيات القرن الماضي أهمية اللغة في حاضرنا المعاصر باعتبارها البوابة الملكية للنفاذ إلى مجتمع المعرفة، وهى التي تتبوأ موقع القلب على خريطة المعرفة الإنسانية الشاملة، وبالتالي كان أول عربي يخضع الحرف العربي للحاسوب، كما كان من أوائل العرب الذين احترفوا هذا المجال الصعب ، ومن ثم أطلق عليه «الأب الروحي للبرمجة العربية»، بعد سلسلة الابتكارات السباقة فى مجاله، فقد صمم أكثر من 20 برنامجاً تربوياً وتعليمياً منها أول محرك بحثى للغة العربية على أساس صرفي، وأول قاعدة بيانات معجمية للغة العربية، وأول برنامج للقرآن الكريم، وأول قاعدة معارف للشعر العربي، وطور العديد من المعالجات الآلية الأخرى للغة العربية، وصمم نموذج المعمل المتقدم لتعليم العربية وتَعلُّمها، وربط الكيبورد العربي بالتكنولوجي، وغير ذلك من برمجيات تعليمية وثقافية، وهو صاحب فكرة إنشاء مشروع «صخر» للكمبيوتر عام 1983 مع رجل الأعمال الكويتي «محمد الشارخ» وعمل مديرا للمشروع، وبين العام 1985 - 1999 عمل نائبا لرئيس مجلس إدارة شركة صخر للبحوث والتطوير، وكان فى الفترة بين عامى 1972 و1977 تولى العمل مديرا للحاسب الآلى بشركة «مصر للطيران»، وكان أول من أدخل نظم الحجز الآلى بشركات الطيران فى المنطقة العربية، ثم تقلد بعدها مناصب ومستويات مختلفة فى شركات عربية وعالمية فى مجال الكمبيوتر بمصر والكويت وأوروبا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية. ولم يقتصر دوره على جهوده البحثية الفردية، بل وعى مبكرا إلى ضرورة توسيع قاعدة البحث العلمي العربي بشكل يقوى من موقف العرب على خارطة دنيا المعرفة، وذلك بالإشرف على بعض رسائل الدراسات العليا في مجال «النمذجة المعلوماتية» في كلية الهندسة بجامعة عين شمس و»الخصائص المعجمية النحوية للأفعال» في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة و»اللسانيات الحاسوبية العربية» في المركز القومي للبحوث بالقاهرة، إضافة إلى إلقاء المحاضرات بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وكلية الهندسة بجامعة القاهرة، فضلا عن كونه باحثاً زائراً في قسم اللسانيات في «جامعة كاليفورنيا» في لوس انجلوس، ناهيك عن عضويته في عدد من الجمعيات العلمية والثقافية، وكان رئيساً لجمعية هندسة اللغة في مصر، ونشر عدة مقالات علمية، وأجرى عددًا من الدراسات للمنظمات العربية والإقليمية، وأظهر في أعماله مقدرة فائقة على عرض مادته وتحليلها وتحويلها من مادة نظرية إلى برامج عملية تفيد مستخدمي العربية والحاسوب.