في إطار الاحتفال بعيد العمال الذي يوافق اليوم الأربعاء، يستعيد المصريون عبر ذاكرتهم التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ صورًا ومشاهد أول إضراب عن العمل وأول تظاهرات عمالية في التاريخ، وهى الوقائع التي جرت في منطقة دير المدينة التاريخية في أحضان جبل القرنة، غرب محافظة الأقصر، قبل 3500 عام. ويسترجع المصريون، بحسب الباحثة المصرية هبة صوان، كيف استطاع العمال في مصر القديمة أن يحصلوا على حقوقهم بالتظاهر السلمي، وكيف وقفت الشرطة إلى جانبهم آنذاك. ويأتي حنين المصريين إلى الماضي في ظل ما تشهده الساحة السياسية في البلاد من حالة استقطاب غير مسبوقة، ومعارك وجدل سياسي تفجر في أعقاب نجاح ثورة يناير، ولم ينته حتى اليوم، ووسط مطالب بأن يتحول "دير المدينة" الذي شهد تفجر أول ثورة عمال في التاريخ إلى متحف للثورات يسجل قصص ومشاهد الثورات العمالية والشعبية. وتقول الباحثة هبة صوان، إن أهمية هذه المنطقة تعود لوجودها بين واديين شهيرين وهما وادي الملوك الذي كان يضم أجساد ملوك مصر ، ووادي الملكات الذي كان يضم أجساد ملكات وأميرات مصر الفرعونية، ما يعني ارتباط المدينة بهذين الواديين. فبين أحضان جبل القرنة التاريخي غرب الأقصر تقع مدينة أطلق عليها قدماء المصريين اسم "مكان الحق" وكان يطلق على قاطنيها اسم "خدام مدينة الحق" وتعرف في العصر الحالي باسم "دير المدينة" وهي في الجزء الجنوبي من جبانة طيبة - الاسم القديم لمدينة الأقصر-. وتقول الأثرية المصرية منى فتح الله، إن هذه المدينة التي تعد أول مدينة عمالية في التاريخ تأسست في بداية عصر الأسرة ال18 واستمرت إلي نهاية الأسرة 20 مما يعني أن عمرها حوالي 5000 سنة، وبعد بداية تأسيسها بقليل تعرضت لحريق هائل ولكن الدولة بنتها من جديد قبيل عهد الملك العظيم تحتمس الثالث. وتابعت، وعندما جاء الملك المارق - كما أسموه المصريون القدماء - إخناتون استعان بأهل هذه المدينة ليساعدوه في تأسيس عاصمته الجديدة في تل العمارنة بمحافظة المنيا ولكن دير المدينة ازدهرت في عصر الرعامسة - عصر الأسرتين 19 و 20 -. وأوضحت أن سكان المدينة كانوا من أمهر حرفيي وعمال مصر في أزهي عصورها، فقد كان يقطن بها الحجارون وقاطعو الأحجار كما ضمت النقاشين الذين نقشوا أروع المناظر في العالم بالإضافة إلي مصممي المقابر وأمهر الرسامين في العالم القديم. ويروى الدكتور منصور بريك، المدير العام لآثار الأقصر تاريخ وتفاصيل أول إضراب وتظاهرات عمالية في التاريخ ، فيقول إن هذا المكان وقبل آلاف السنين وتحديدا في العام التاسع والعشرين من حكم الملك رمسيس الثالث وفى اليوم العاشر من الشهر السادس مر العمال المتظاهرون علي نقاط حراسة المقبرة ومن أمام أعين الحراس الموجودين صوب معبد الملك تحتمس الثالث حيث اعتصموا خلفه. وحسب بريك، حاول مسئولو إدارة جبانة طيبة الغربية إقناع العمال المتظاهرين بالدخول إلى المعبد لمناقشة مطالبهم، ولكن العمال المتظاهرين رفضوا، ثم داروا السور المحيط بمعبد الرامسيوم، ووصلوا إلي الجزء الجنوبي منه، وجاء لهم الكاتب بنتاورت "لكي يسكتهم وأعطاهم خمس وخمسين كعكة". ويقول بريك إن العمال المتظاهرين عادوا إلي معبد الرامسيوم ثانية واعتصموا بعد جدال مع كهنة المعبد ودخلوا إلى فنائه، فجاء إلي المعبد الكاتب بنتاورت ورئيس الشرطة منتومس وبعض مسؤولي الإدارة وأثناء إقناعهم، ذهب بنتاورت إلي عمدة طيبة لعرض مطالب المتظاهرين ولكنه عاد دون خالي الوفاض. واستمر العمال يعرضون مطالبهم في توفير المأكل والمشرب والملبس وطالبوا بعرضها علي فرعون مصر رمسيس الثالث أو وزيره" تو". ويشير الدكتور منصور بريك إلى أنه في اليوم الثالث عشر حدث أمر عجيب وهو أن رئيس الشرطة منتومس -ربما تعاطف مع العمال لعدم توفير الإدارة حلولا لمشاكلهم - طلب من العمال المتظاهرين التجمع من أجل قيادتهم للاعتصام في معبد سيتي الأول بالقرنة، وحاولت الإدارة إيجاد حلول مؤقتة فقررت صرف كمية من القمح لكل عامل من المتظاهرين. وبحسب بريك، لم يف هذا حاجة العمال فلجأوا إلي طريقة جديدة وهي الاعتصام ليلا وهم يحملون المشاعل. ويقول بريك ، في اليوم الثامن والعشرون من بدء التظاهر والاعتصامات كان الوزير "تو" عائدا من مهمة جمع تماثيل الآلهة من المعابد المحلية جنوبي الأقصر من أجل عيد تتويج الملك الذي كان يقام في منف - العاصمة القديمة لمصر- وحاول رئيس الشرطة الجديد "نب سمن " مقابلته أثناء مروره بالأقصر من أجل عرض مطالب العمال المتظاهرين ولم يستطع الوزير سوي إيجاد حل مؤقت وهو صرف نصف الاجور المتأخرة. وتابع ، شهدت تلك التظاهرات الاعتصام بمعبد الملك مرنبتاح وعندما حاول عمدة طيبة مناقشتهم صرخوا فيه مما جعله يهرب ويرسل لهم الجنايني منيوفر ومعه كميات من القمح ليوزعها عليهم. وبعد أيام من التظاهر قام زعيم العمال "بن انوكي" بعرض مطالب العمال والمشاكل التي تحدث في الجبانة من وراء الفرعون، ووجه اتهامات خطيرة لاثنين من المسؤولين المهمين، وهما وسرحات وبنتاورت وهي سرقة أحجار من مقبرة الملك العظيم رمسيس الثاني، وثور مرقط وعليه علامة معبد الرامسيوم ومجامعة ثلاث سيدات متزوجات. كما ألمح إلى تستر الوزير حوري علي هذه الجرائم وطالب العامل بعرض المطالب والاتهامات علي رمسيس الثالث أو وزيره تو، وتمثلت تلك المطالب في صرف الأجور المتأخرة ومحاربة الفساد الذي تفشى بين رؤسائهم وإيصال صوتهم إلي فرعون مصر ووزيره،واستجاب الحكام لتلك المطالب، لينتهي أول إضراب وتظاهرات عمالية يشهدها التاريخ غرب الأقصر قبل أكثر من 3500 عام. وبحسب عالم المصريات الدكتور أحمد صالح عبد الله، فقد بلغ عدد سكان هذه المدينة في أوج ازدهارها 400 أسرة أي أن معدل السكان كان حوالي خمسة آلاف نسمة - متضمنة أسر العمال والشيوخ والأطفال - وكانوا ينقسمون إلي مجموعتي "أهل اليمين" و "أهل اليسار" وربما كان انقسامهم عائد إلي طريقة عملهم في المقابر الملكية التي كانوا يعملون بها، حيث يقسم العمل إلي مجموعتين، إحداهما تعمل يمين المقبرة والأخرى علي اليسار. وكان المسئول عن كل مجموعة سواء في المقبرة، أو المدينة شخص يحمل لقب "كبير العمال"، يعينه الوزير وكان يقوم بتوزيع العمل علي العمال ويشرف علي توزيع الحصص التموينية "الأجور"، ويساعده في عمله "نائب كبير العمال" ثم يأتي في المرتبة الثالثة "كاتب المقبرة"، الذي كان يسجل العمل المنفذ في المقبرة الملكية، ويسجل المتغيبين عن العمل ويوزع مواد وأدوات البناء من المستودعات الملكية.