عندما يتفوق الرجال ويصبحون عباقرة وعلماء وأطباء ذوى مكانة كبري، فحتما لابد أن تفتش عن الأم المدرسة مفتاح الحياة ووطن الطيبة وخيوط الأمل التى تنير المستقبل. الدكتورة سهام قداح والدة الدكتور حازم ياسين أستاذ طب وجراحة العيون بكلية طب قصر العينى كما وصفها لى كانت ومازالت سيدة المواقف والثوابت، فهى الحاضرة التى لم تغب عن نبضات روحه (لغتنا كانت بالقلب والعين وكلماتها مازالت تطرب أذنى حين كانت تقول إن جميع النساء يحملن بالرحم بينما أنا حملتك بقلبي). كانت تجمعهما حياة وخبرات وعلم طوال 42 عاما وحتى موعد رحيلها عام 2007 تركت بصمتها على الطبيب النابغة الذى أصبح متفردا ومتميزا فى طب وجراحة العيون ترى ما خلطة نبوغه وتفوقه والدور الذى لعبته الأم الراحلة فى حياته؟ الدكتور حازم ياسين واحد من أهم جرَّاحى طب العيون فى مصر، معروف بدقته وتميزه فى إجراء العمليات الصعبة، تخرَّج فى جامعة القاهرة عام 1991وعيِّن طبيبا مقيما بمستشفى قصر العينى حتى 1994، ثم وصل إلى درجة أستاذ بجامعة القاهرة. بالإضافة إلى أنه عضو بالأكاديمية الأوربية والأمريكية لجراحى العيون والمياه البيضاء، وعضو تنفيذى للجمعية العالمية لإصلاح عيوب الإبصار ويحاضر فى الجمعية الأمريكية والهندية لجراحى العيون. ولد فى 31 من يناير1966وله ابنة واحدة تعيش فى أمريكا درست السياسة والاقتصاد وتعمل فى مجال السياحة. سألته عن تاريخ د. سهام قداح وعملها بمستشفى قصر العيني فقال: كانت رئيس أقسام طب القلب بمستشفى المنيرة بقصر العينى وهى من مواليد 10من إبريل عام 1930، التحقت بكلية الطب وعمرها 17 عاما وكانت من العشرة الأوائل فى الثانوية العامة، وبعد تخرُّجها عام 1957 التحقت كنائب بالمستشفى وتدرجت فى المناصب حتى ترأست أعلى منصب لها وهو رئيس أقسام الباطنة والقلب بقصر العينى، وتزاملت مع عالم القلب د. مجدى يعقوب، وكان وقتها طبيب امتياز يتجه إلى جراحة القلب والصدر بينما أمى كانت نائب امتياز وتسبقه بسنتين فكانت تدربه على قراءة رسم القلب وقتها لأنه كان أهم شيء فى زمن الستينيات، وكانت تحكى لى عن نبوغه وموهبته. وكيف كانت علاقتك فى صغرك وشبابك بوالدتك؟ كنت طفلا محظوظا ولم أتعب والدتى، ولا أنسى عندما كانت تقول لى (جميع النساء يحملن بالرحم أما أنت فقد حملت بك فى قلبى)، فجزء كبير من قيمى ومثلى أخذتها منها،وهى السيدة التى مررت بمراحل حياتى جميعها وأنا بجوارها، وكثير من قيمى المزروعة داخلى نبع وشريان من قلب أمى، لقد كانت نموذجا يحتذى به وخليطا من الحزم والحنان والعقاب بالنظرة ولغتنا لغة العيون وطبقت فى حياتى الآية الكريمة (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا). لم أخالفها يوما وأعيش ببركة دعائها فظلت تعمل حتى آخر نفس فى حياتها، كنت مرتبطا بها إلى أبعد الحدود. وماذا تعلمت منها؟ الكثير، فخبراتى وما أنا فيه اليوم أدين لها بالفضل فيه، فقد علمتنى الإحساس بالمسئولية والتواضع، فهى صاحبة ختم جواز سفرى فى تخصصى بالجراحات الدقيقة للعيون وأعمل بوصيتها وتعاليمها التى اكتسبتها منها، فبفضلها أصبح لى رصيد من الحب والتقدير عند الناس. تعلمت منها الصبر وسعة الصدر،وعلمتنى الطيبة ومد جسور الود والمعاملة الحسنة وجبر الخاطر مع البسطاء والمرضى، علمتنى كيف أعيش سويا ونهما فى علمى وأهدافي. إنها حاضرة دائما ولا أشعر بأنها غائبة. كانت متفرغة لى ولأختى سحر طوال الوقت ولم تفتتح عيادة خاصة من أجلنا. وهل تتذكر أيام رحيلها؟ برحيل أمى أدركت أن هناك بكاءً دون دموع، وصراخا يمزق الحنجرة دون أن يسمع.أحسست بأن فراقها كسرنى فخاصمت الحياة واعتزلت كل شيء. لم أتصور أنى سأعيش بدونها كنت فى شدة الغضب والحزن فكيف أُحرم من هذا القلب الحنون، وتوقفت عن عملى وقررت الهجرة، لكن الله دائما يرسل إلينا من يخرجنا من أزماتنا. وفاة الأم ضربة قاصمة للرجل والأسرة لكن تظل كقيمة موجودة على مدى عمرنا. وهل هاجرت بعد رحيلها؟ أبدا..أتذكر حين وقعت حادثة الفنان أحمد السقا كنت قد توقفت عن كل شيء، لم أعد أستطيع العمل وقتها. لكن حادثة السقا وإصابته فى عينه أعادتنى مرة أخرى إلى حياة العمل بعد أن أجريت له جراحة ناجحة بفضل الله ودعوات امى لى، وفى العام نفسه سافرت إلى الحج وشعرت بأن الله يكافئنى ويستردنى مرة أخرى. ورغم أننى لم أخطط للحج وكانت هناك مصاعب كثيرة لم يكن لى حتى مقعد متوافر بالطائرة فإن الله يسَّر لى كل شيء فلم أجد مشقة فى الحج، وشعرت بأن الله دعانى وأعاننى وشعرت ب(طبطبة) الرحيم بعد فقد أمي. وكيف تعودت الوضع الجديد؟ شقيقتى سحر عوضت جزءا كبيرا من علاقتى بأمى وكذلك دادة حسنية التى لم تفارق أمى أو تفارقنا طوال عمرها. ولدت ووجدتها منذ صغرى ومازالت موجودة معنا إلى اليوم وهى عوضتنى قليلا عن فقد أمى. كانت معها فى مراحل مرضها الأخير وأسهمت بجزء فى تربيتى، وكانت (الناضورجى) الذى يحكى كل شيء لماما، وهى اليوم فى السبعينيات من عمرها ومقيمة بالبيت ربتنا وربت أولادنا وأختى سحر أكبر منى بسنتين وهى أمى الثانية بعد ماما، وعلاقتنا ببعضنا قوية منذ الطفولة. لكن تظل أمى التى لا يمكن أن يحل محلها أحد مهما يكن، ولا يشعر الإنسان باليتم إلا حين يفقد والدته مهما بلغ من العمر. وهل اخترت طب وجراحة العيون مصادفة أم عن حب؟ اخترت التخصص بعد أن أصيبت ماما بالمياه الزرقاء فى إحدى عينيها كنت بالسنة السادسة بكلية الطب كنا نذاكر معًا وكانت تراجع معى أثناء الماچستير. وفى عام 2006 تكرر الأمر وكنت وقتها أحضر للدكتوراه قبل المولد النبوى بيومين كانت ترى بعين واحدة فقط وقالت (على فكرة أنا مش شايفة حاجة خالص) وقتها فزعت وطرت بها إلى المستشفى وبعد فحصها وجدتها مصابة بالمياه البيضاء فى العين التى ترى بها وقلت لها لابد من إجراء جراحة فورية يا ماما، وقالت لى مادمت أنت من سيجريها لى فأنا مطمئنة، فقلت لها: هناك أساتذتى فهم أجدر منى وأفضل فقالت لى: لن يجرى لى العملية أحد سواك أنت أفضل واحد وأنت من ستجريها لى، فقلت لأستاذى وأبى الروحى د. فؤاد أبوستيت ماحدث، فقال لى خذها إلى المستشفى بعد يومين، ولن يكون هناك أحد والمستشفى سيكون خاليا فكان الاختبار الحقيقى لحياتى المهنية، وقد كانت أصعب جراحة أجريتها فى حياتي، لأن والدتى تعلم كل تفاصيل الجراحة فكانت تذاكر معى وتسألنى عن تفاصيلها الدقيقة، وأتذكر أننى بعد العملية أخذت أمى وذهبت إلى البيت ونمت 28 ساعة متواصلة لم أذق الطعام ولا الماء وشعرت بأنى فى ماراثون رهيب..ونجحت العملية. كيف شكلت والدتك منظومة حياتك العملية والاجتماعية؟ أتعامل مع ابنتى الوحيدة من منطلق تربية أمى لى وإن اختلفت بعض الشيء فأصبحت أتعامل معها كصديق كما كانت أمى تتعامل معى وليس كأب،فابنتى مستقلة برأيها نظرا لتربيتها الأجنبية فنحن فى مصر كلمة الوالدين نافذة تماما بينما فى الخارج الأمر مختلف. كانت تريد دراسة الطب وعارضتها لأنها مهنة متعبة وشاقة وأشفقت عليها. وقد درست الطب لمدة عام ثم تراجعت ودرست الاقتصاد والعلوم السياسية ثم السياحة. وهل چيناتها مصرية أم خليط؟ لقد أخذت كل چيناتى فى الطباع والنوم والحركات. وإلى أى مدى أسهمت فى تربيتها؟ للأسف هى تعيش فى أمريكا وأنا أسافر إليها من آن إلى آخر.. الأب رمز للهيبة والخوف والأم المدرسة الحقيقية التى تربى وأمى هى التى حملت هذا الدور الأكبر فى التربية. كيف تصف علاقتك بوالدتك؟ أنا محظوظ أنى عشت طفولة وبنوة راقية، وستظل حاضرة فى حياتى حتى بعد رحيلها، فهى صاحبة الفضل فى وجودى. وبماذا كانت تمتاز من خصال؟ كانت سريعة البديهة وخفيفة الظل ولديها دأب فى الوصول إلى الهدف كانت تهتم بالتفاصيل ولديها ذاكرة قوية وكانت ترنو إلى الكمال فى كل شيء ومحبة للحياة وهوايتها البيت والمطبخ والأشغال اليدوية والفنية الجميلة وكانت طباخة ماهرة لم أذق أجمل من طعامها. وماذا كان يغضبها منك؟ كنت شخصا غير متعب وكنت مطيعا لها، كانت تنزعج عندما أعطى الرياضة وقتا طويلا عن المذاكرة، وغضبها كان يضايقنى وبمجرد أن أُقبِّلها ينتهى كل شيء. وهل اختلفت تربية الأمس عن اليوم؟ طبعا اختلفت كثيرا اليوم أصبحت وسائل الإعلام هى المسيطر على تربية الأبناء وتوجهاتهم بينما بالأمس. الأم والأب كانا المسيطرين على كل شيء الجيل الحالى أقل انتماء وأقل برا بالوالدين.