أدرك أن الحياة لا تتوقف على أحد وتستمر باستمرار العمر وأي رجل اقتضته أقداره أن يحرم من الإنسانة التى أحبها وارتبط بها فى الدنيا لن يعيش بحاله منفردا طول الوقت وسيأتى يوم يرتبط فيه بإنسانة أخرى ويمتد به العمر وكأن من مضت من حياته لم تكن إلا خيالا خاطفا طواه النسيان وليس فى هذا شيء فهو طبيعة الحياة وحكمتها ولكنى لست على هذا النحو من الطبيعة البشرية فارتباطى بزوجتى وحب عمرى أشبه بحالة من التوحد روحا وجسدا حتى أنى كنت أظن أننا سوف نبقى فى الدنيا حتى نرحل عنها سويا فما بيننا من توأمة روحية لا تنفصل برحيل واحد منا عن الآخر وإن كان القدر قد اختطف حبيبتى فى غمضة عين سرطانية شرسة فما أبقى لى غير جسد تنبض فيه الحياة بلا روح فروحى راحت معها وها هو جسدى المنهك شوقا وفراقا تتآكل أيامه حتى تنزوى الدنيا إلا منها. ازداد استسلامى لحالة الاكتئاب منذ رحيل زوجتى المفاجئ لولا والدتى تتولى رعاية ابنتى الصغيرة لضاعت منى هى الأخرى فأنا لم أعد قادرا على الاعتناء حتى بنفسى ولولا جلسات العلاج النفسى والتأهيل التى خضعت لها مرغما بضغط من أمى وشقيقى ما توازنت بعض الشيء واستطعت العودة إلى عملى ولكن حياتى لم تعد إلا أداء ديناميكيا وكأن سيناريو كل الأيام متطابقة ليس فى ظلمتها نقطة ضوء إلا ابتسامة بريئة ترتسم على شفتى صغيرتى التى لم تتجاوز الخامسة من عمرها كلما رأتني. أنظر إليها وأبحث فى ملامحها الصغيرة عن أمها وتتخاطفنى تساؤلات كالسهام تنغرس فى عقلي، لعل روح حبيبتى تسكن فيها، إنها قريبة الشبه منها، نفس خفة الظل، الصوت وإن بدا طفوليا، اندفاعها نحوي، أصرخ كمجنون أخذته نداهة بعيدة فأتجمد لندائها عجزا لا أنا قادر على الوصول إليها ولا قادر على تجاهل ندائها المستمر. أنا لست مجنونا وأدرك بوعيى ماهية الحياة والأشياء وأفهم أنى مازلت مصدوما غير مصدق أن نصفى الآخر لم يعد له وجود وأصلى وادعو الله لها بالرحمة ولكن قلبى هو من لا يحتمل هذا ويرفضه، يعذبنى وأجن لعذابه وليس لى من أمر قلبى شيء، ترى هل فقدت قدرتى على التعايش وهل يتحول الحب إلى مرض أستميت به يأسا وعجزا؟ ربما لو كانت حياتى تخصنى وحدى ما اكترثت للموت فلقائى ومن أحببت أحب عندى من الدنيا ولكنها ابنتى من ستدفع فاتورة كل هذا بلا ذنب اقترفته فمن لها من بعدى وهل أكون سببا ليتمها من أبيها كما تيتمت من أمها، فليرحمنى الله من ثقل ما أحمل فما عدت أحتمل صراعا يجتاحنى لأمواج متلاطمة أغرق فيها بلا طوق نجاة. أمى طلبت منى الزواج من امرأة تتكفل بابنتى وتعيد لى توازنى فى الحياة لا تدرى أن قلبى لم يعد على قيد الحياة وليس لامرأة مهما تكن صفاتها أن تدنو من ذكرى امرأة عاشت فى حياتى ورحلت عنى وروحى معها. قالت لى أمى إنها لن تعيش لى أبدا وتثقل على بدموعها ما يشقينى أكثر مما أنا فيه، فاستكنت لها وتركت لها نفسى حتى قيدتنى بخطبة فتاة من أقربائنا كنت أجلس قبالتها جامدا متحجرا لا أصم ولا أراها، تحاول جاهدة أن تقترب مني، تأخذ بيدي، تمد لى يدها، تنتشلني، ولكنى مازلت غارقا فى تيه لا نهاية له، تصرخ فى وجهى وتذهب بعيدا وأعود لغضب أمى تحملنى مسئولية فشل ارتباطى وعجزى عن التعلق بالحياة والتعايش فيها بكل ما تحوى من آلام وعذابات . و هكذا تتعالى أسوار عزلتى من حولى تحجب الشمس عن روحى وأدفن نفسى فى أحاسيسى الراحلة ميتا على قيد الحياة . ك . س . القاهرة ترفق بحالك يا أخى فما كل هذا الهم تحمله ثقيلا بلا قدرة على حمله أو حتى تجاوز آلامه، تجلد روحك لرحيل امرأة أحببتها وكأنك من كنت سببا فى رحيلها غير مصدق أن عمرا قضى به رب العزة قد انتهى وأن الحياة التى طوت صفحات حبيبتك مازالت تفتح صفحات حياتك تسطر فيها أيامك القادمة فأنت لم تمت مع من ماتت وتلك حقيقة دامغة وواقع أنت تعيشه بالفعل فما بالك تنكره وتنكر على نفسك نعمة الله عليك أن وهب لك أما مازالت تحنو عليك وتسعى لإعادة توازنك الحياتى بكل ما أوتيت من قوة ووهبك ابنة هى امتداد فعلى لروح أمها فيك ولكنها مازالت صغيرة وأمك بالفعل لن تعيش لها أما بديلة والأعمار بيد الله سبحانه وتعالى كما وهبك الله إنسانة قبلت أن تحمل معك ثقل همك وآثرت على نفسها مهمة مستحيلة تنتشلك من لجة عجزك وانكسارك وتبعث النور فى عينيك من جديد بعد أن سكنتها عتمة الوحدة الحالكة . تعقل يا أخى وافتح قلبك للحياة فالحب الذى تعلقت به لم يرحل برحيل حبيبتك ولكنه يتجدد فى قلبك ذكرى طيبة وامتداد عاطفى لامرأة أخرى افترشت لك روحها تستكمل معك المشوار فلا تلفظها وتذكر يا أخى أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان نموذجا مجسدا للحب فى أرقى درجاته مع السيدة خديجة رضى الله عنها ولما رحلت عن الدنيا بقى حبها فى قلبه ذكرى طيبة جعلته يوما يفرش الأرض بردائه لامرأة عجوز ويقدم لها التمر واللبن يخدمها بنفسه لأنها كانت صديقة خديجة هل هناك حب أعظم من هذا الحب ولكنه لم يزهد الحياة برحيل من أحب وتزوج وأحب ثانية امتدادا لمشاعر الحب فى قلبه تجاه أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها فهل أخذت من حب رسول الله قدوة تسترشد بها فى حياتك وتستنير طريقك فيما هو قادم ؟ وتذكر يا أخى قول الله تعالى فى سورة آل عمران «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (14). ومن هنا ندرك حكمة الحياة وأسس العيش فيها فما كان لنا فيها من زينة أحببناها لا تتوقف عليها حياتنا إن مضت فالله عنده حسن المآب رسالتنا فى الدنيا أن نعبده ونتقيه فى كل عمل لنا نعمله وحسن مآبنا هنا أن ينعم علينا برحمته وعفوه يوم المشهد الأعظم فاجعل من حبك عقيدة تدرك وتعى أنه قبس من حب الله عز وجل زين لنا فى الدنيا ولكن لا يأخذنا بريقه فيعمينا ويحبطنا ويعجزنا عن العيش.