عندما قرر طلعت حرب فى عام 1927 فى إقامة مصنع للغزل والنسيج، لم يلجأ إلى المدن الكبرى كالقاهرة أو الإسكندرية، ولكنه توجه إلى المحلة الكبرى التي تقع في قلب الدلتا؛ حيث زراعة القطن المصري طويل التيلة ذي الشهرة العالمية، والقاعدة هنا أن المصانع تكون قريبة من الحقول التي تمثل مراكز الإنتاج وبالتالي توفير تكلفة النقل، إلى جانب الأيدي العاملة بأسعار رخيصة الثمن. وهو ما يعطى المنتج القدرة التنافسية فى الأسعار، طبعا من بين هذه المنظومة تمت إقامة سلسلة من محالج الأقطان ومصانع الصباغة وغيرها من الأنشطة المرتبطة بهذه الصناعات التى تميزت بها مصر عالميا، والرسالة الأخطر والاهم فى تقديرى ان هذه المصانع وغيرها كالدلتا للأسمدة فى طلخا ساهمت بشكل كبير فى انتقال شريحة من مواطنى هذه المناطق من عقلية وسلوك المجتمع الزراعى التقليدى البسيط إلى سياسات الفكر الصناعى الذى يحتاج إلى الإدارة الحديثة من مديرين ومهندسين وفنيين من العمالة الماهرة التى تتغير حياتها عبر منظومة مواعيد الحضور إلى المصانع والورديات وثقافة الجودة وإتقان العمل، كل ذلك بدوره وعلى مدى سنوات يؤدى إلى تراكم الخبرات ويخلق مجتمعات تعتمد على العلم والتنوير. من هذه الزاوية تحديدا أرى انه من الخطر الشديد تصفية القلاع الصناعية فى محافظات الدلتا، لأنها ليست مجرد مؤسسات إنتاجية تسهم فى توفير فرص العمل ولكنها تمثل منارات للحداثة والتنوير، وهو ما يجب ان يدفعنا جميعا إلى السعى لإصلاح الشركات والمصانع الخاسرة وليس التصفية. فاصل قصير: كل شيء يمر، كل شيء يفنى، كل شيء يصبح تافهًا، لا أحد ينجو من الحياة.. سارة كين