د. عبدالعليم محمد بصرف النظر عن نصيب ثورات الربيع العربى من المفردات والتعبيرات الدالة على فصول العام؛ ربيعا أم خريفا، وشتاء أو صيفا؛ فإن هذه الاحتجاجات والانتفاضات تعد من أهم الأحداث التى ميزت نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، على الصعيد العربى والإقليمي؛ ذلك أنها تميزت بعمق هذه الاحتجاجات والتظاهرات واتساع مداها جغرافيا، وأنها زاوجت بين الإصلاح والثورة، ولم تستلهم نماذج ثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر أو ثورات القرن العشرين أى الثورة الفرنسية والبلشفية وثورة التحرر الوطنى بل استلهمت نموذج ثورات نهاية القرن العشرين السلمية أو المخملية أو الملونة فى أوروبا الشرقية وغيرها من البلدان. كل ثورة على حدة، تنخرط فى سياق تاريخى واجتماعى واقتصادى وثقافى مختلف، باختلاف الدول وتقاليدها فى الاحتجاج والنابعة من التجربة الوطنية، تزامن احتجاجات الربيع العربى فى أكثر من دولة، يعود فى المقام الأول إلى درجة من التجانس والتطابق بين الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية؛ تلخصت فى انسداد آفاق المستقبل أمام الأجيال الجديدة، وفقدان الأمل وظهور اتجاهات لتوريث الحكم، وحدوث نمو ولكن دون تنمية حقيقية توفر فرص العمل والكرامة للأجيال الشابة. بعد مرور عقد على ثورات الربيع العربي، ماذا يبقى منها فى المشهد الراهن؟ والسؤال على أهميته فإن الإجابة عنه تخضع للجدل والمناقشة والتنوع، فثمة من يرى أن هذه الثورات فشلت فى تحقيق أهدافها، وهناك من يرى أنها لم تفشل؛ بل تعثرت ولكنها تركت بصماتها على الواقع إلى أجل يصعب التنبؤ به. وبداية نلفت النظر إلى تلك المزاوجة بين تعبير الثورات والانتفاضات فى طرح هذا السؤال، ذلك أن العديد من الخبراء والمراقبين لهذه الثورات وأحداثها يرون أن الثورة تسمى كذلك عندما ينجح الثوار فى السيطرة على سلطة الدولة، وتشكيل تحالف سياسى جديد من الفئات المختلفة، التى شاركت فيها، وعجز الدولة عن السيطرة على الاحتجاجات واحتواء تداعياتها، أما فى حالة الفشل فتسمى انتفاضة. وإذا ما نحينا جانبا ذلك الجدل الممتد حول طبيعة احتجاجات الربيع العربي، فإن حصادها بعد مرور العقد من الزمان لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه، وإذا كانت الثورة فى خمسينيات القرن العشرين استهدفت الكرامة الجماعية من خلال شعار ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعمار بصوت الزعيم الراحل الخالد جمال عبد الناصر، فإن احتجاجات الربيع العربى قد استهدفت الكرامة الفردية، من خلال شعارات حرية عدالة كرامة إنسانية، وفى حين أن ثورات الخمسينيات قد استهدفت التحرر من سيطرة الخارج الاستعمارى المهيمن والاستقلال، فإن احتجاجات الربيع قد استهدفت الداخل المهيمن من مختلف الفئات التى سيطرت على الوضع الداخلي، وهمشت الشباب وبقية فئات المجتمع، وسعت لتوريث امتيازاتها للأصدقاء والمحاسيب والأبناء من خلال الفساد وفرض القيود على الحريات، وتغييب المواطنين، وبذلك يبقى من هذه الاحتجاجات وربما للمرة الأولى فى التاريخ العربى الحديث أنها توجهت للداخل وتحررت من سطوة النظر إلى الخارج باعتباره أس البلاء والتخلف والقهر، وقامت بتشخيص فطرى وطبيعى للأوضاع ورأت من خلاله أن المشكلة التى ينبغى مواجهتها تكمن فى الداخل من تحالف الفئات المسيطرة وعلاقاتها الزبائنية. احتجاجات الربيع العربى تميزت منذ البداية بعفويتها وتلقائيتها وسلميتها، ولم تكن نتاج مؤامرة خارجية حتى بافتراض أن بعض الناشطين قد تلقوا تدريبا فى الخارج، حيث لم يكن بوسع هؤلاء أن يعبئوا هذا العدد الضخم من المواطنين الذين احتشدوا فى الميادين وعواصم الأقاليم، وكما فاجأت هذه الاحتجاجات والتظاهرات باتساعها وعمقها الدول والنظم السياسية المعنية، فإنها فاجأت الدول الغربية أيضا، وهو الأمر الذى يفسر تردد هذه الدول فى البداية من هذه الاحتجاجات، كما أنها عصفت بالتصور النمطى الغربى عن العرب وقصورهم فى التصدى للجمود والركود. أدرك الإخوان المسلمون أن هذه التظاهرات مختلفة عن المرات السابقة، ودخلوا بثقلهم التنظيمى والتعبوى على خط هذه التظاهرات، وهو الأمر الذى يفسر العنف الذى رافق هذه الاحتجاجات بعد نشوبها، تدمير أقسام الشرطة ونهب أسلحتها والاعتداء على ضباط الشرطة وجنودها وتحريف وجهة الاحتجاجات عن طابعها السلمى والإصلاحى كان هو الهدف، الذى رمت إليه جماعة الإخوان وفصائل الإسلام السياسي؛ بغرض الوصول للحكم وتصفية حساباتهم مع الدولة المصرية. ما بقى وتبقى من احتجاجات الربيع العربى خاصة فى مصر باعتبارها حجر الزاوية فى استقرار الإقليم، وسيظل حاضرا فى الذاكرة الجماعية للمصريين، هو انكشاف طبيعة العقل السياسى للفصائل والجماعات التى تزعم الانتماء للإسلام، وكشف طبيعة الخطاب السياسى المراوغ والمزدوج، الذى كان يصعب اكتشاف طبيعته ومراميه القريبة والبعيدة قبل نشوب هذه الاحتجاجات؛ لأن هذا الخطاب ببساطة تبنى خطاب القوى السياسية المدنية وغير الدينية، بمختلف تياراتها القومية والليبرالية واليسارية والوطنية، حيث زعم هذا الخطاب أنه مع حقوق الإنسان والديمقراطية والتغيير السلمى والمواطنة المتساوية ومناهضة إسرائيل والتطبيع، وسرعان ما تبين للمواطنين فى أقصى الأماكن وأدناها ازدواجية هذا الخطاب وانتهازيته وانفصال الأقوال والتصريحات عن الأفعال والممارسة العملية، وذلك عندما وصل الإخوان إلى الحكم، وتكشفت طبيعة خطابهم؛ حيث قاموا بتحصين قراراتهم ضد الرقابة والمساءلة، وأفصحوا عن نيتهم فى البقاء لمئات السنين، وهو ما يعنى رفض تداول السلطة والتنكر للديمقراطية، أما حقوق الإنسان فحدث ولا حرج، حيث تعرضت للانتهاك المستمر وفتح الباب للانقسامات المذهبية والدينية، وأصبح العنف اللفظى والمادى هو السلاح الوحيد للبقاء وردع المواطنين عن الاحتجاج على ممارساتهم، كما أصبح بيريز صديقا للمعزول مرسي! لقد أفضت السيطرة الإخوانية وجماعات الإسلام السياسى من حلفائهم إلى تحريف وجهة الاحتجاجات لمصلحتهم وإجهاض التحول السلمى وفتح الباب للتدخلات الإقليمية والدولية المؤيدة لسيطرة هذه الجماعات على الحكم، وهو الأمر الذى أدى إلى نشوب موجة ثورية جديدة من الاحتجاجات التى أيدتها القوات المسلحة فى الثلاثين من يونيو عام 2013 فتحت الباب للاستقرار وإنهاء الفتنة واستعادة الدولة الوطنية وتفعيل مؤسساتها، لم تذهب احتجاجات وانتفاضات الربيع العربى سدي، بل تركت فى الوعى الجمعى والفردى للمواطنين بصمات واضحة، وأثبتت أنهم قادرون على تغيير واقعهم بإرادتهم الحرة، عندما يرون أن هذا الواقع لا يلبى مطالبهم واحتياجاتهم، وهذا درس لو تعلمون عظيم.