صلاح التيجاني أمام النيابة: "خديجة مريضة واتهمتني بالتحرش ظلم"    بتكلفة 9 ملايين جنيه.. افتتاح مسجد العتيقي بدسوق بكفر الشيخ    موعد امتحانات دورة أكتوبر 2024 لمحو الأمية بالأقصر    رئيس مركز ومدينة شبين الكوم يتفقد سير العمل بالمركز التكنولوجي    قصف بيروت| صفارات الانذار تدوي في شمال إسرائيل    يلا كورة يكشف كواليس انقسام مجلس الإسماعيلي بسبب حلمي طولان    "اعتذار عن اجتماع وغضب هؤلاء".. القصة الكاملة لانقسام مجلس الإسماعيلي بسبب طولان    مصرع سائق توك توك في حادث مروري أثناء عبوره الطريق بمركز جرجا    صلاح عبدالله يشكر المتحدة لدعمها أحمد عزمي: خطوة نحو مستقبل مشرق    صحة المنوفية: رش وتطهير المركز الإقليمي لتعليم الكبار بأسفيك والمنطقة المحيطة    واقف قلقان.. نجل الشيخ التيجاني يساند والده أمام النيابة خلال التحقيق معه (صور)    تشييع جثامين ثلاثة شهداء فلسطينيين ارتقوا خلال عدوان الاحتلال على قباطية بالضفة الغربية    صدور العدد الجديد من جريدة مسرحنا الإلكترونية وملف خاص عن الفنانة عايدة علام    عمرو الفقي ل«أحمد عزمي» بعد تعاقده على عمل درامي بموسم رمضان: نورت المتحدة وربنا يوفقك    دعاء يوم الجمعة: نافذة الأمل والإيمان    رئيس الإدارة المركزية لشئون الدعوة وسكرتير عام محافظة البحيرة يشهدان احتفال المحافظة بالعيد القومي    غدًا.. انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس| حضور الطلاب تباعا لعدم التكدس.. و25 مليون طالب ينتظمون الأسبوعين المقبلين.. وزير التعليم يستعد لجولات ميدانية تبدأ من سوهاج وقنا    نجم ليفربول يرغب في شراء نادي نانت الفرنسي    خلال ساعات.. قطع المياه عن مناطق بالجيزة    وزير الأوقاف يشهد احتفال "الأشراف" بالمولد النبوي.. والشريف يهديه درع النقابة    بعد الموجة الحارة.. موعد انخفاض الحرارة وتحسن الأحوال الجوية    وزير العمل: حريصون على سرعة إصدار الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    روسيا: تفجير أجهزة ال"بيجر" في لبنان نوع جديد من الهجمات الإرهابية    خبير يكشف تفاصيل جديدة في تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية بلبنان    مصدر لبناني: البطاريات التي يستخدمها حزب الله مزجت بمادة شديدة الانفجار    كوجك: حققنا 6.1% فائضا أوليا متضمنًا عوائد "رأس الحكمة"    الإفتاء تُحذِّر من مشاهدة مقاطع قراءة القرآن المصحوبةً بالموسيقى أو الترويج لها    جمعية الخبراء: نؤيد وزير الاستثمار في إلغاء ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة    جامعة عين شمس تعلن إنشاء وحدة لحقوق الإنسان لتحقيق التنمية المستدامة    طريقة عمل بيتزا صحية بمكونات بسيطة واقتصادية    هذا ما يحدث للسكري والقلب والدماغ عند تناول القهوة    موعد مباراة أوجسبورج وماينز في الدوري الالماني والقنوات الناقلة    إعلام إسرائيلي: تضرر 50 منزلا فى مستوطنة المطلة إثر قصف صاروخي من لبنان    الأزهر للفتوى الإلكترونية: القدوة أهم شيء لغرس الأخلاق والتربية الصالحة بالأولاد    معرض «الناس ومكتبة الإسكندرية».. احتفاء بالتأثير الثقافي والاجتماعي لمكتبة الإسكندرية في أوسلو عاصمة النرويج    مفتي الجمهورية يشارك في أعمال المنتدى الإسلامي العالمي بموسكو    سهر الصايغ تشارك في مهرجان الإسكندرية بدورته ال 40 بفيلم "لعل الله يراني"    سكرتير عام مساعد بني سويف يتفقد سير أعمال تعديل الحركة المرورية بميدان الزراعيين    ضبط شخصين قاما بغسل 80 مليون جنيه من تجارتهما في النقد الاجنبى    خبير تربوي: مصر طورت عملية هيكلة المناهج لتخفيف المواد    رئيس جهاز العبور الجديدة يتفقد مشروعات المرافق والطرق والكهرباء بمنطقة ال2600 فدان بالمدينة    الأنبا رافائيل: الألحان القبطية مرتبطة بجوانب روحية كثيرة للكنيسة الأرثوذكسية    غرق موظف بترعة الإبراهيمية بالمنيا في ظروف غامضة    أزهري يحسم حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين وطلب المدد منهم    «الداخلية» تنفي قيام عدد من الأشخاص بحمل عصي لترويع المواطنين في قنا    سوء معاملة والدته السبب.. طالب ينهي حياته شنقًا في بولاق الدكرور    وزير الإسكان يتابع استعدادات أجهزة مدن السويس وأسيوط وبني سويف الجديدة والشيخ زايد لاستقبال الشتاء    وثائق: روسيا توقعت هجوم كورسك وتعاني انهيار معنويات قواتها    مستشفى قنا العام تستضيف يوما علميا لجراحة المناظير المتقدمة    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام ضمك.. توني يقود الهجوم    عبد الباسط حمودة ضيف منى الشاذلي في «معكم».. اليوم    استطلاع رأي: ترامب وهاريس متعادلان في الولايات المتأرجحة    رابط خطوات مرحلة تقليل الاغتراب 2024..    تراجع طفيف في أسعار الحديد اليوم الجمعة 20-9-2024 بالأسواق    «الخارجية الروسية»: الغرب تحول بشكل علني لدعم هجمات كييف ضد المدنيين    نجم الزمالك السابق يتعجب من عدم وجود بديل ل أحمد فتوح في المنتخب    عاجل.. موعد توقيع ميكالي عقود تدريب منتخب مصر للشباب    مصطفى عسل يتأهل لنصف نهائي بطولة باريس المفتوحة للإسكواش 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الصحة العالمية» إلى أين بعد عام على جائحة كورونا؟.. التاريخ السرى لطبيب العالم العاجز

منظمة الصحة العالمية تعاني من هشاشة الميزانية وتنفق ببذخ على رحلات أعضائها بدرجة رجال الأعمال
تعيين موظفيها على أساس جغرافى وطابع تمثيلى بدلًا من الكفاءة.. أبرز سلبيات دستور المنظمة
«إنها المقر الذى تولد به الأفكار البراقة لتحصل على صك الوفاة»، هكذا يردد العاملون بمنظمة الصحة العالمية، تعبيرًا عن البيروقراطية العتيدة لهذا الكيان الأممى الذى أضحى غرفة عمليات وقبلة العالم المعلقة، حواسه الخمس بكل ما يصدر عنها من توصيات، هى كل ما تملكه من حطام سلطة منزوعة المخالب، فهى أقل من قرنائها الدوليين، فلا تملك حق فرض قراراتها ولا معاقبة المخالفين، ولا إيفاد مفتشين دوليين إلى أراضى الدول الأعضاء، فهى أشبه بطبيب عالمى مبتور الأذرع عاجز يعانى ضيق ذات اليد، حيث توازى ميزانيته ثلث مثيلتها لمركز مكافحة الأوبئة الأمريكى؟!
ولأن هذا الطبيب هو من يدير الجائحة الكورونية، فلنا أن نتساءل كيف يٌدار؟ فهو أمر يُعنينا ولطالما أعيانا بمثالبه. ونتساءل: كيف انعكست المتغيرات السياسية تاريخيا على مرايا الواجهة الزجاجية لهذا المبنى؟ وهل باتت عملية تنكيسه بوصفه «قابلا للكسر» حتمية، أم أن هناك فرصة إصلاحية؟ وما العقبات التى تعترض أطروحات إعادة هيكلتها؟ إننا بصدد زيارة تاريخية واستشرافية إلى أروقة منظمة الصحة العالمية.
مع اقتراب مرور عام على تحليق خفافيش كورونا بسماوات العالم، كيف ينظر العالم إلى أداء واستجابة "منظمة الصحة العالمية" لتلك الجائحة غير المسبوقة؟ بحسب أحدث استطلاع للرأى العام أجراه معهد "بيو" الشهير بنهاية الصيف الماضي- مع ملاحظة أن البيانات الواردة به، تم استنتاجها قبل تفشى الموجة الثانية لكورونا ببعض دول العالم- فإن غالبية دول العالم التى شملتها الدراسة تبنت رؤية داعمة لدور المنظمة باستثناءات محدودة أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية، حيث بلغت نسبة التأييد بالأولى 19% وبالأخيرة 24%.
ولعل اللافت للنظر هو تباين التقييم العام، لأداء المنظمة تبعا للنوع والسن والانتماء الحزبى! حيث كانت السيدات والشباب فى غالبية الدول التى شملها الاستطلاع بطليعة العناصر التى تبنت رؤية إيجابية بصدد أداء منظمة الصحة العالمية، ففى إيطاليا دافع ثلثا السيدات اللائى شاركن بالدراسة عن المنظمة، فى مقابل 44% فقط من الرجال. وتنسحب ذات النتيجة، فيما يخص الفئات العمرية فى تسع دول، حيث سادت الميول الداعمة للمنظمة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 عاما، بخلاف من تجاوزت أعمارهم عتبات الخمسينيات.
كذلك كان للانتماء الأيديولوجى والحزبى أثر بالغ فى تحديد رؤية البعض، ففى نصف الدول التى شملتها الدراسة تقريبا، كان التقييم الإيجابى للمنظمة من نصيب أصحاب الاتجاهات اليسارية الشعبوية، بخلاف اليمين الذى كان سلبيا فى مجمله. وبالولايات المتحدة الأمريكية أعرب سبعة من بين عشرة من أعضاء الحزب الديمقراطى عن رضاهم بشأن أداء المنظمة فى مواجهة جائحة كورونا، مقارنة بحوالى ٪32 فقط من الجمهوريين.
خطط الإصلاح
ومع تجدد المخاوف من احتمالات تفشى أوبئة جديدة تعكف عدة حكومات أوروبية أبرزها بريطانيا، وألمانيا وإيطاليا على دراسة خطط لإصلاح منظمة الصحة العالمية. وتحظى دعوات الإصلاح بتوافق دولى واسع مع ميول دولية، لتأجيلها إلى ما بعد أفول جائحة كورونا، حتى لا يبدو الأمر وكأنه اغتيال للكف الممدودة، لإنقاذ العالم الغارق فى دوامات كورونا والمعركة لا تزال مفتوحة.
وتهدف تلك الخطط الإصلاحية إلى ضمان استقلال المنظمة، عبر إيجاد سبل لفصل آلية إدارة حالات الطوارئ عن أى نفوذ لدولة منفردة. ومن المتوقع أن تتضمن الإصلاحات تغييرا فى نظام التمويل، حتى يكون طويل المدى بشكل أكبر. فالمنظمة تعمل حاليا على أساس ميزانية لمدة عامين، وهو ما يٌخل باستقلاليتها فى حال اضطرارها لجمع أموال من دول مانحة فى ظل وجود حالة طوارئ.
هذا الجدل الدائر بين مؤيد ومعارض، أفرز أطروحات من شأنها الإسهام فى رسم ملامح مستقبل المنظمة وبالتتابع منظومة الصحة العالمية ككل.
جدل الإصلاحات
وعن أطروحات الإصلاح لفت نظرنا د. لورنس جوستين – أستاذ القانون بجامعة جورج تاون – أن السبيل إلى تعديل مسار المنظمة، ينطلق من ضبط ممارسات الدول الأعضاء والحد من الضغوطات والإملاءات التى يتم فرضها عليها من قبلهم، وأن يتمتع رئيسها بهامش من حرية التحرك لصالح قضايا الصحة العامة دونما تدخلات سياسية. والأكثر أهمية السماح لها بإيفاد خبرائها إلى أراضى الدول الأعضاء.
فالمسألة لا تتعلق فقط بالقيود الهيكلية أو المؤسسية، بقدر ما تتعلق بغياب القيادة الجريئة فى عملية صنع القرار وإصلاح منظمة الصحة العالمية. حيث تتحمل الدول الأعضاء مسئولية عدم منح أمانة المنظمة الموارد اللازمة لدفع عملية الإصلاح إلى الأمام، ففى مايو 2015 تم رفض اقتراح مديرة المنظمة آنذاك مارجريت تشان، بزيادة الاشتراكات المقررة بنسبة ٪5 لضمان التمويل الكامل للميزانية.
ولعل العقبة الأكبر التى تواجه أية عمليات مراجعة إصلاحية، تكمن فى صعوبة إجراء تغييرات بالدستور، كون المادة 60 تشترط موافقة أغلبية ثلثى الأعضاء، بالحضور والتصويت على قرارات جمعية الصحة العالمية - أعلى جهاز لاتخاذ القرار بمنظمة الصحة العالمية - بما فى ذلك إجراء تعديلات بالدستور. ومن أبرز سلبيات دستور المنظمة، منحه أولوية للأساس الجغرافى والطابع التمثيلى لتعيين موظفى المنظمة، الأمر الذى يأتى على حساب معيار الكفاءة.
وهذا يقودنا إلى تحد آخر يواجه محاولات الإصلاح، يتجسد فى غياب توازن المهارات بين أطقم العاملين بالمنظمة.فبحسب دراسة منشورة فى صحيفة "ببليك هيلث"، تبين أنه من بين ثلث موظفى منظمة الصحة الذى يتمتعون بالكفاءة، فإن حوالى نصفهم من تخصصات طبية، ٪1.6 فقط خبراء اجتماعيين و٪1.4 رجال قانون. هذا التشكيل غير المتوازن لهيكل موظفيها، يعنى فقدان القدرة على فهم الثقافات والعادات المحلية، وإدارة العلاقات الدولية، فضلا عن صياغة مبادئ وقواعد الصحة العالمية.
وتعانى المنظمة من تخمة بهيكلها التنظيمى، بحيث أضحى يمثل عبئا مرهقا ومكلفا وافتقد الفاعلية المأمولة، فبجانب المقر الرئيسى بجنيف توجد ستة مكاتب إقليمية، وهو ما ضاعف من التعقيد البيروقراطى.
وجدير بالذكر أن صيحات الدعوات الإصلاحية تعالت عام 2017 قبيل انتخاب رئيسها الحالى، حيث اعتبرها البعض فرصة لإعادة تصحيح الأوضاع، لكنها أفلتت دون تقدم يُذكر.
وقد لخصت الصحيفة جانبا من أزمة منظمة الصحة العالمية، فى وصفها إياها "بالوكالة الفنية " ذات الثقل فى المسائل التقنية، لكنها لا تملك "ذراعا لوجيستيا "!
سوابق تاريخية
الاتهامات الموجهة إلى منظمة الصحة العالمية بالانحياز للرواية الصينية، والتلكؤ فى إعلان حالة الطوارئ على خلفية تفشى فيروس كورونا المستجد، ليست هى السابقة الأولى من نوعها، لكنها قد تكون الأكبر والأكثر خطورة فى تاريخ المنظمة، فكم من الدول التى حاولت الهروب واتباع إستراتيجية النعام فى مواجهة الأوبئة، تفاديا لعواقبها الوخيمة محليا. فقد أفاد تقرير "لمجلس العلاقات الخارجية" الأمريكى، أنه إبان تفشى وباء إيبولا بغرب إفريقيا، مارست غينيا ضغوطا خوفا من العواقب المحلية، التى قد تترتب على إعلان حالة الطوارئ الصحة العامة التى تثير قلقا دوليا، دفعت تلك الضغوط المكتب الإقليمى لمنظمة الصحة العالمية إلى التقليل من درجة خطورة الوضع، وحجب معلومات بشأن أية إصابات جديدة عن مقر المنظمة بجنيف.
وتتنوع أنماط الضغوط السياسية التى تتعرض لها منظمة الصحة العالمية، فقد أشارت صحيفة " الفاينناشيال تايمز " البريطانية إلى أنه فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، مارست اليابان ضغوطا هائلة على عدد من الدول لإعادة انتخاب هيروشى ناكاجاما مرشحها لرئاسة المنظمة لدورة ثانية، وذلك باتباع إستراتيجية " العصا والجزرة" حيث لوحت بحزم من المساعدات المالية حينا، والتهديد بخسارة المزايا التجارية حينا آخر. وقد أتت تلك الضغوط ثمارها، فعلى الرغم من المعارضة الأمريكية –الأوروبية لإعادة انتخابه، فإنه نجح بفضل أصوات إفريقيا. آسيا وأمريكا اللاتينية.
وعطفا على ذلك يمثل المانحون المتطوعون مصدرا آخر للإملاءات، حيث باتت المنظمة تعتمد عليهم لضعف ميزانياتها بنسبة ٪80، وهو ما أفقدها الاستقلالية فى رسم أجندتها وفق ما ذكرته مجلة "ناتشير " الأمريكية.
مرايا سياسية
يخطئ من يظن أن أول عملية حقن لأوردة وأروقة منظمة الصحة العالمية بالسياسة، كانت على إثر جائحة كورونا، بل إنها تمتد إلى تاريخ ما قبل المنظمة ذاتها، بل يمكننا القول إن مصطلح "الصحة العالمية "، جرت عملية تدشينه ملتصقا بمتغيرات عالم الاقتصاد السياسى قبل أن تتم إجراءات مؤسسته.
فما أشبه الليلة بالبارحة، فبحسب دراسة مهمة لمعهد "تشاتام هاوس" بلندن، والمعروف رسميا باسم – المعهد الملكى للشئون الدولية – فإن الإرهاصات الأولى لتأسيس هيئة تعنى بالصحة العالمية، والتى تمثلت فى عدة مؤتمرات دولية للصحة العامة انطلقت الدعوات إليها فى منتصف القرن التاسع عشر، كان الدافع الرئيسى وراءها هو المواءمة بين إجراءات العزل الصحى للحد من انتشار الأوبئة حال تفشيها، دونما المساس بحركة التجارة العالمية وعجلة دورانها. والمفارقة أن جائحة كورونا تشهد أنه حتى تلك اللحظة مازالت تلك المعضلة ذاتها تستعصى على رجالات السياسة والأعمال!
وقد اتسمت سنوات النشأة الأولى بالاستقرار النسبى، وبتطبيق برامج للسيطرة على انتشار الملاريا والجدرى، وإن كان اللافت للنظر أنه حتى فى تلك المراحل المبكرة، كان اعتمادها ماديا بالأساس على مساهمات تطوعية.
اتسمت حقبة السبعينيات من القرن العشرين بزخم سياسى، كانت له أصداء واسعة النطاق بجدران منظمة الصحة العالمية، ففى أعقاب صدمة النفط الأولى، تعالت الصيحات الداعية إلى نظام اقتصادى دولى جديد، فترددت همسات داخل المنظمة تطالب بضرورة إعادة توجيه بصلتها صوب الدول النامية، بمنحها مزيدا من المساعدات الفنية. وترافق ذلك مع وجود شخصية كاريزمية على قمة المنظمة متجسدة فى الدكتور هالفدان ماهلير، الذى شغل منصب المدير العام للمنظمة طيلة ثلاثة عهود متتالية، وذلك من 1973 إلى 1988، وهو الذى قام بصك مصطلح "الصحة للجميع"، الذى اعتبر تعبيرا عن الطموحات الاجتماعية والاقتصادية للدول النامية، أكثر من كونه تغييرا تكنيكيا فى آليات تحقيق سياسات الرعاية الصحية لفاعلية أكبر. كذلك شهدت حقبة السعينيات عدة إنجازات على هذا الصعيد تم تمريرها، برغم المعارضة الشرسة لأقطاب صناعة الدواء.
وتلقت منظمة الصحة العالمية طعنة غائرة بقلبها فى حقبة الثمانينيات، إثر دخول "البنك الدولى" فى عمليات إقراض القطاع الصحى على نطاق واسع، فيما مثل تحديا لها كهيئة تنسيقية، حيث شهدت البيئة السياسية والاقتصادية بساحة الصحة العالمية، خلق وتمويل مبادرات خارج نطاق منظمة الصحة العالمية، ودخول لاعبين جدد إلى الحلبة، أبرزهم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والتحالف العالمى للقاحات والتحصين، المعروف باسم "جافي". فوجدت المنظمة نفسها فى مواجهة واقع جديد يفرض عليها تحديات وتساؤلات عن ماهية موقعها وسط تلك القوى الوليدة المنافسة بشراسة؟
الأزمة المالية
لقد ألقت الأزمة المالية العالمية (2007 - 2008) بظلالها القاتمة على منظمة الصحة العالمية، حيث اضطرت إلى خفض بنود ميزانياتها المخصصة لقدرات الاستجابة السريعة لمواجهة انتشار الأوبئة، وساد الفتور بين الدول الأعضاء بشأن مقترحات تطويرها التى برزت إلى السطح فى أعقاب انتشار مرض إنفلونزا الطيور، فلم تعد تبدى حماسا لتبنيها.
وترتب على خفض ميزانياتها خسارتها العديد من العناصر ذات الكفاءة العالية القادرة على إدارة الأزمات بفاعلية، الأمر الذى انعكس سلبا على أدائها بوجه عام وإبان تفشى وباء إيبولا بوجه خاص، حيث كان وجودها ضعيفا فى غرب إفريقيا بسبب خفض ميزانياتها, ففى ذروة انتشاره بخريف 2014 ذهب وفد من المنظمة إلى واشنطن للمطالبة بدعم مادى يُقدر بنحو 600 مليون دولار لإقامة مراكز علاجية جديدة فى كل من ليبريا، سيراليون وغينيا – بوصفهم بؤرة تفشى إيبولا - وذلك بهدف توفير سبل التعامل الآمن مع نفايات ضحايا إيبولا واجراءات السلامة لعمليات الدفن. وبعدما التقى أعضاء الوفد مع مسئولى وزارة الخارجية الأمريكية، وهيئة الغذاء والدواء ومركز مكافحة الأوبئة، كان جٌل ما حصلوا عليه 100 مليون دولار، تعهدت بدفعها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وبإلقاء نظرة خاطفة على تطور المساهمات الأمريكية بميزانية المنظمة منذ عام 2010 نلاحظ تراجعا تدريجيا، حيث بلغ بهذا العام 280 مليون دولار بحسب الإحصاءات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية، لكن لم تلبث واشنطن أن قامت بخفض مساهمتها بنسبة ٪23 لتبلغ 215 مليون دولار، ثم تراجعت إلى 180 مليون دولار عام 2013. وقد مثل هذا المنحى الأمريكى جزءا من اتجاه عالمى آنذاك كمردود للكساد الذى ضرب العالم والآثار بعيدة المدى للأزمة المالية العالمية، حيث استبدلت العديد من الدول الحزم التحفيزية بالميزانيات التقشف، وتراجعت بالتالى عن بعض تعهداتها لمنظمة الصحة العالمية.
رفاهية الإنفاق
بينما تعانى منظمة الصحة العالمية من هشاشة الميزانية وهزالها، نجدها تنفق ببذخ على أوجه الترف والرفاهية كرحلات أعضائها على درجة رجال الأعمال والإقامة بفنادق باهظة الكُلفة فى مفارقة مثيرة للدهشة والاستفزاز. فقد أنفقت 200 مليون دولار على رحلات موظفيها، وهو ما يفوق ما تنفقه على مواجهة الأزمات الصحية بالعالم، فطبقا لأرقام لا تكذب ولا تتجمل فقد أنفقت عام 2016 حوالى 71 مليون دولار لمواجهة مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) والتهاب الكبد الوبائى، وحوالى 61 مليون دولار لمواجهة الملاريا و59 مليون دولار لمواجهة مرض السل. وذلك بحسب ما ورد بتقرير صادر عن وكالة "الأسوشيتد برس" بعام 2017.
و طبقا للتقرير المالى الصادر عن منظمة الصحة ذاتها، تبين أنها تنفق على رحلات أعضائها ضعف ما تنفقه على المساعدات الطبية. فقد تم إهدار حوالى ٪8 من ميزانية عام 2018 على رحلات الأعضاء مقابل ٪4 فقط للمساعدات الطبية!
والأدهي، أنه من إجمالى المبلغ الذى تم إهداره تم إنفاق ٪45 منه لصالح العاملين بالمنظمة والباقى لغير أعضاء أطقم المنظمة!
ولعل المثال الصارخ كان أثناء رحلة إلى غينيا، حيث تم حجز الجناح الرئاسى بفندق "بالم كامينى" فى العاصمة كوناكرى لإقامة د.مارجريت تشان، المدير العام السابق لمنظمة الصحة العالمية بتكلفة بلغت 900 يورو فى الليلة الواحدة.
قد علقت المنظمة على الأمر بأن تكلفة إقامة تشان وحدها تعادل تكلفة كل أعضاء الوفد المرافق لها، ولكن المنظمة أشارت إلى أنه فى كثير من الأحيان تتحمل الدولة المضيفة نفقات إقامتها. ومنذ ذلك الحين تصاعدت الانتقادات الموجهة إلى البذخ فى إنفاق المنظمة، فى وقت تشكو فيها من ضعف الميزانية.
خلاصة القول، إن جائحة فيروس كورونا المستجد، نزعت ورقة التوت عن مكامن الضعف فى جسد المنظمة المترهل، ومن المستبعد أن يتم استبدالها بكيان آخر، فالخيار الأكثر ترجيحا هو محاولة إصلاحها هيكليا وماليا، فالعالم بحاجة إلى وجودها برغم ما تعانيه من سلبيات، فلا مناص من خضوعها لعملية قلب مفتوح لاستعادة عافيتها ومصداقيتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.