كان الطفل الصغير يعبر النهر مرتين يومياً طيلة سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية في مدينته في جنوب الصعيد، يفعل ذلك كل يوم بحب رغم المشَاق اليومية لصغير مثله وضعته الجغرافيا في مأزق ، وأصبح بينه وبين مدرسته فرعين للنيل، وبينهما جزيرة يجب عليه أن يعبرهم يومياً، كي يكمل تعليمه ويحقق كل ما يتمناه في المستقبل. في مدينته كان أول ما يزور في الصباح عم «عبدالحميد»، بائع الصحف والمجلات، الآتية للتو طازجة وشهية من قطار الصعيد القادم من القاهرة، لكي يشترى صحيفة الصباح أو بعض المجلات التي يحبها ويعشق حل المسابقات الثقافية فيها، كان يفعل ذلك كل يوم بمنتهى العشق ولا يدري أنه سيصبح في قادم الأيام ممن يعملون في بلاط صاحبة الجلالة . كان النيل في حياة الصغير أساسياً يمارس فيه هواية السباحة هو وأقرانه كثيراً، وعلى صفحاته يسافر بأحلامه لأبعد مدى .. يقرأ معانٍ كثيرة، أولها الخير الذي لا ينتهي، وليس آخرها العطاء الذي يتدفق منذ بدء الخليقة .. للنيل ذاكرة، فهو يحفظ حكايات من عبروه لحظة بلحظة، ولو تكلم النيل سيحدثك عن الطيبين والكادحين الذين مروا على صفحاته بأحلامهم وهمومهم التي تحققت والتي لم تتحقق منذ قرون .. لو تكلم النيل سيقولك لك: إنه هِبَة الله للجميع لكي تعيش الناس في سلام وأمن.. وأنه مجرى الحلم والأمل والحياة وأنه مخلص وأمين ويكره المؤامرات و«كيد الدول» الخائبة التي تعشق الطرق الملتوية، لو تكلم النيل سيقول لنا: إنه يعشق المدن صاحبة التاريخ والحضارة والمضيئة بأفعالها وثقافاتها عبر العصور ولا يحب المدن المتكاسلة التي تترك نفسها للمدى والريح وتنسى نفسها ولا تفيق إلا على المشكلات، ومن المؤكد أنه سيقول لك أيضاً: «على ضفتي عاش عبر الأزمنة المختلفة بناؤون عظام أسسوا حضارات متعاقبة ما زالت باقية وشاهدة على إنجازاتهم، وآخرين مروا من هنا، ولكن لم يتركوا أثراً يذكر». سمع الصغير بعد أن كبر أغنية «النيل نجاشي.. حليوة أسمر» لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، و«النجاشي» في اللغة الأمهرية وفقاً لتفسير مؤلف الأغنية أمير الشعراء أحمد شوقي، يعنى «الحاكم»، وقد وصف النيل بأنه نجاشي لعظيم أثره في حياة مصر»، كما سمع الصغير أغنية «النهر الخالد» لعبدالوهاب، والشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، وأخذ يردد مع الأغنية: مسافرٌ زادهُ الخيالُ ................. والسحرُ والعطرُ والظلالُ ظمآنُ والكأسُ في يديه ............. والحب والفن والجمالُ شابتْ على أرضهِ الليالي .......... وضيعتْ عمرها الجبالُ صار الصغير شاباً، ثم كهلاً، وذهب إلى اتجاهات عدة بحثاً عن الرزق وتحقيق الأحلام، وهو يعتقد بأن النيل نهر الضمير الذي يقسم مياهه بالعدل على الجميع، لكن ما أذهل القروي الذي تعلم من النيل «أن الخط المستقيم هو أقصر الطرق للوصول إلى الهدف»، وبعد ظهور مشكلة « سد النهضة »، أن الأثيوبيين يسمون النيل ب «نهر الأباي» أي النهر الغدار، أو الخائن ويعلمون أطفالهم ذلك في المدارس، وأن النيل الأزرق الذي ينبع من إثيوبيا هو واهب حضارة مصر، يمنح كل خيراته لها ويتركهم فقراء وكأن المشكلة في النيل وليس فيهم. تشهد الجغرافيا أن مصر متماسكة من الناحية الطبيعية، ونتمنى أن نكون كذلك يداً واحدة في مواجهة هذه المشكلة المصيرية، وعلينا أن ندرك تماماً أن الجغرافيا أكثر ديمومة في حياتنا، يأتي الوزراء والمسئولون ويذهبون، ولكن السلاسل الجبلية تبقى في مكانها وتظل الأنهار والسهول كماهي .. فلنحافظ معاً على النيل .. هبة الله والطبيعة. كبر الصغير وأصبح شاباً وكهلاً، وعرف أيضاً أن للجغرافيا تاريخ كبير في صياغة التاريخ وأنها ستارة خلفية لتاريخ النفس البشرية وأن أفريقيا هي أكثر قارات العالم تحملاً لأعباء الحدود المصطنعة التي وضعها المستعمر الغربي لذلك تظل المشكلات فيها دائمة مشتعلة حتى تظل الدول ضعيفة وغير قادرة على النهوض والاستقلال بذاتها وقرارها، فرغم كل الترابط الحالي بين قارات العالم بفعل التقدم التكنولوجي السريع، تظل الخرائط هي المؤثر الأكبر في صراعات المستقبل. «من ينسى الجغرافيا في حسابات القوة العالمية لا يمكنه أبداً أن يهزمها»، هكذا يرى المفكر الأميركي المعروف روبرت كابلان، والإدارة الناجحة هي التي تقرأ ملامح الخرائط، مثل عراف يقرأ تضاريس الجبال والأنهار والسهول وكيف تحدد مصير الشعوب؟، حيث الجغرافيا هي خلفية لا غنى عنها للدراما الإنسانية تؤثر في الأفكار والإرادة والفرص الممكنة، لذلك أرى أن النيل لم يخن إثيوبيا، بل هم من قصروا في تنمية بلادهم رغم كمية الأمطار الهائلة التي وهبهم الله إياها على مدار العام. نحن نعرف أن انتقام الجغرافيا صعب، لكن نعرف أيضاً أن الحقوق التاريخية للشعوب لا يمكن إنكارها مهما طال الزمن وتنوعت الحجج، ونؤمن دائماً بأن الأنهار التي تمدنا بماء الحياة لا يمكن أن تغدر أو تخون. * كاتب وإعلامي مصري مقيم في الإمارات