مثَّلت قيم الاغتراب والتعبد والتأمل والولع بالعلم والتفكر وقضايا الوطن، محطات أساسية في حياة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الذي توفته المنية أمس الأول السبت، فهي سيرة متكاملة للبطريرك عبر عنها في أشعار كتبها عبر مراحل هذه الحياة المليئة بالعطاء، وكشفت عن عشقه لتراب هذه الأرض وتورطه في قضاياها. فقد ولد نظير جيد روفائيل يتيم الأم، وتولى رعايته والده وأخوه الأكبر، وهو يقول في شعر كتبه مبكرا حينما كان يدرس في كلية الآداب بجامعة القاهرة: "أحقا كان لي أم فماتت؟" أم أني خلقت بدون أم؟ .. رماني الله في الدنيا غريبا.. أحلق في فضاء مدلهم. وأسال يا زماني أين حظي. بأخت أو بخالٍ أو بعم؟.. وأسأل عن صديق لا أجده.. كأني لست في أهلي وقومي". ومن هنا تولد الحس بالفقد والاغتراب لدى البابا، ليجد في حب الله والعلم والوطن بدائل للأم التي افتقدها، وتشغله قضايا وطنه منذ كان طالبا خاصة مسألة تطوير التعليم، ولا غرابة في أن يصبح البابا شنودة في ستينيات القرن المنصرم أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الإكليريكية. يقول البابا في قصيدة شهيرة عنونها ب "الجغرافيا": "يا ما نفسي شهر واحد بس مش عايزه يزيد.. يعملوني فيه عميد أو حتى نائب للعميد.. كنت أعمل للسكاشن كلها ترتيب جديد.. كنت أخلي الشخص يتخرج تقول زي الحديد.. كنت أمشي الشخص منكم عالعجين مايلخبطوش.. كنت ألغي قسم جغرافية ومش ناقصين مضايقة.. متنا من كتر المذاكرا ومش لاقيين ذاكراتنا حايقة.. من غير الجغرافية تبقي دراسة الكلية رايقة. ويتضح أن البابا شنودة الثالث أدرك ببصيرة عالم زاهد أن تقدم الأمم لا يأتي بالتلقين والحفظ قدر ما يأتي بإطلاق ملكات الإبداع، فيقول في قصيدته "الجغرافيا" التي لا تخلو من عامية بيرم التونسي المعجونة بالمصرية وتقترح تبسيط مادة الدراسة العقيمة: "مش ظريف الاقتراح ده يخليكم ما تسقطوش.. بس انا يا خسارة عايش وسط ناس مايعبروش.. يعني لو ما كنتش اعرف المناخ ده استوائي أبقى جاهل.. يعني لو ما كنتش اعرف الجبل ده التوائي أبقى جاهل.. ده كلام فارغ صحيح ده مقرر مش مريح.. دي مضايقة دي سماجة بس لما أبقى عميد.. و الأمل ده مش بعيد.. ها ابقى ألغي كل حاجة". وتأتي بعد تخرجه من كلية الآداب واشتغاله على التعليم بمدارس الأحد، محطة أخرى في حياته وهي انعزاله لحياة الرهبنة التي كان يرى فيها النقاء الكامل، والمعروف أن البابا شنودة أمضى سنوات طوال في الصحارى والمغارات والأديرة، ينفرد بعبادة الله، ويقول عن تلك الفترة في قصيدته "أنا في البيداء وحدي" : "أنا في البيداء وحدي.. ليس لي شأن بغيري.. لي حجر في شقوق التل.. قد أخفيت جحري.. وسأمضي منه يوما.. ساكنا ما لست أدري.. سائحا أجتاز في الصحراء.. من قفر لقفر.. ليس لي دير فكل البيد والآكام ديري.. لا ولا سور فلن يرتاح للأسوار فكري.. أنا طير هائم في الجو لم أشغف بوكر.. أنا في الدنيا طليق في إقامتي وسيري.. أنا حر حين أغفو حين أمشي حين أجري.. وغريب أنا أمر الناس شيء غير أمري". وهنا يتجلى حس الشاعر وثنائيته، فالبابا الذي يدعو الناس للحياة وإعمار الأرض، لا يجد حرية العابد المتصوف بداخله، الشغوف بالصحراء ونقاء الحياة فيها ومطلقها، لا نسبية الحياة وسجونها الدنيوية وشئونها. وطوال المراحل العمرية ومع تزايد مسئولياته بشئون الباباوية والكنيسة، يشتاق نظير جيد روفائيل للعودة لسيرته الأولى قبل تولي هذه الشئون، يشتاق للصحاري والأديرة وأكثر للانعزال بغرض التعبد والتأمل والتفكر في كون الله وطبيعته وشئونه وخلقه. يقول البابا في قصيدته "حرمت البراري": "حرمت البراري وأجواءها.. وعشت زِحام الألوف أُلَبي.. وصرت أزور وصرت أُزار.. وصرت أُجادل في الدين غيري.. وأشغل قلبي بالمشكلات.. فأين السكون وأين الهدوء؟.. إذا قلت أني خسرت الأم فهم يعجبون وهم يسألون.. ألست تُنادي باسم المسيح؟!.. ولكن ذكرى حياة الجبال فأين فؤادي يقضي الليالي.. وما عاد ربي له كل فكري.. وأسأل كيف تغير حالي.. أخيرا خضعتُ لما صرت فيه.... وكيف تركت حياة المغارة خضعت لربي، قبلت قراره". ومن هنا يتضح في أشعار البابا فقدان الأم الأولى، ثم الأم الثانية ألا وهي الطبيعة الساكنة والتأمل في خلقها البديع، إلى واقعية الخسارة التي جاءت عقب توليه الشئون الدنيوية، ومن هنا تكون مفردة الاغتراب مسيطرة على أشعار البطريرك العابد المفتون بالله فيقول : "قد كنت في غربة أو كنت في ظن.. ثم انثنيت، وبي شوق إلى وطني.. قد خدروني بألفاظٍ منمقة.. وظل سهرهم ينصب في أذني.. حتى انخدعت بما قالوا وما سردوا.. يوم انخدعتَ بهم، كم كان أبرأني". فالبابا وجد في الشعر فضاء للاعتراف على روحه التي كانت تناديه دوما لحرية الصحاري ونقائها.