تُثير رواية "ابن القبطية"، دار الكتب خان للنشر 2016، للكاتب وليد علاء الدين، إشكاليات شكلت بؤرة الصراع النفسي والعذاب المتكرر لبطل الرواية يوسف حسين الذي أحب والده المسلم جارته المسيحية، وكان جده لأمه صعيديًا مسيحيًا مُستنيرًا ومُتسامحًا، ولم يجد حرجًا أن يُزوج ابنته من جارهم حسين المسلم الطيب الذي أحبها. الراوي العليم صوت عارف بكل تفاصيل الرواية؛ ولهذا يجعل الرواية أحادية الرؤية، في المقابل نجد أن رواية الأصوات تتعدد فيها وجهات النظر المُتباينة وتعكس الاختلاف الفكري والتباين الأيدلوجي بين شخوص الرواية، ومن ثم تضع تفسيرًا للمتلقي لهذه الرؤى المُتباينة والمُتجذرة عبر منظومة القيم الجمالية، لتضع هذه الشخصية مقابل الأخرى أو لتجاورها في الرؤية، عبر تجادلية فكرية تعكس ثقافة شخوص الرواية وانتماءاتهم المتعددة: الدينية والسياسية والفكرية، ولهذا جاءت رواية ابن القبطية بتكنيك رواية الأصوات التي يتعدد فيها صوت الراوي سواء عن طريق الاسترجاع أو الفلاش باك، مثل صوت: يوسف حسين، وصوت أمل، وصوت الراوي الضمني الذي يربط أحداث الرواية، وجاءت عناوين الفصول بأسماء شخصيات الرواية، لتناسب الحوارات الكثيرة المتداخلة والمنولوجات الداخلية مع حديث النفس لترصد صُور التداعي للأحداث المُتعاقبة التي يعيشها يوسف حسين في أزمته النفسية. وأخذ أسلوب السرد في الرواية الشكل المسرحي الذي تكثر فيه الحوارات الكثيرة والمنولوجات الداخلية التي غلبت عليها الطابع السردي، ربما لأن الكاتب وليد علاء الدين كاتب مسرحي بالأساس، وأيضًا اختار الكاتب اللغة الفصيحة ذات المفردات الشعرية الأخاذة حتى في الحوارات والمنولوجات الداخلية، وربما لو جاءت لغة الحوار والمنولوج الداخلي باللغة العامية لكانت مناسبة أكثر للأجواء الشعبية في الرواية، كما كان يكتب يحيى حقي، ويوسف إدريس الذي كتب حوار رواياته باللغة العامية. شهدت مصر صور التسامح الديني في الكثير من العصور الإسلامية، منها صورة التسامح التي جمعت بين حسين الصعيدي المسلم وجارته المسيحية، ولم تجد العائلتان أي تعصب ديني يحول دون الموافقة على زواجهما، هذا التسامح ظهر جليًا في شخصية حسين أبو يوسف وحبه لآل البيت الذي يعبد الله حبًا فيه وليس خوفًا منه، يقول يوسف حسين: أبي قال مرة وحيدة وأخيرة في جدال مع صديقه المُلتحي: "العشق الذي تلومني عليه، هو من فتح قلبي لرؤية الإسلام كدين إنساني، كان صديقه يُحذّره من شطحات التصوف، وأبي يضحك حتى تبين نواجذه، ويقول: تعبدون خوفكم ونعبد حُبّنا ..." الرواية ص 89. وظاهرة التصوف ليست مقتصرة على حسين والد يوسف؛ بل تجلت أيضًا عند يوسف عندما زار ضريح الإمام الأكبر جلال الدين الرومي صاحب الفتوحات الكبرى، والذي كان يحظى بحب الكثير من الطوائف الدينية مهما كانت أسماؤهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية، وأن يجمع حول ضريحه الكثير من المسلمين والمسيحيين واليهود ... "أخذته النشوة بالضوء الأخضر الذي يتسلل كل مساء من منارة المئذنة في هذا الوقت، يُمهد لرحيل النهار ويُضفي على الأشياء مسحةً صوفيةً يُحبها، تُذكره بزيارته الوحيدة لضريح مولانا جلال الدين الرومي في قونية، ويستحضر معها مُتعته بصوت الناي الشجي الذي كان يملأ المكان ولا يشغله ..." الرواية ص 41، 42 ونسمع صوت يوسف حسين: "لم يكن الله أبدًا محل خلاف بين أبي وأمي، كانت آية الكرسي مُعلقةً قرب أيقونة المسيح المصلوب في غرفتهما..." الرواية ص 51، وفي المقابل اجتاحت مصر خلال السنوات الأخيرة موجة دينية زائفة تقوم على التعصب الديني وتحريم كل شيء، وأصحاب هذه الموجة هم العائدون من بعض دول الخليج العربي، وهؤلاء يرون أن صورة الدين في إطلاق اللُحى ولبس الجلباب الأبيض القصير، هؤلاء لم يُعينهم رب العزة وكلاء عنه عز وجل لمحاسبة الناس بدلًا منه، والإسلام الحنيف منهم بريء، كان أحد الدعاة الجُدد من ذوي اللُحى الطويلة حين يرى يُوسف حسين يعزف على آلة العود، ينظر له شزرًا، ثم ينهره ذو اللحية وهو يعزف قائلا: "إن المزيكا حرام!..." الرواية ص 18، ويُلاحقه ذو اللحية قائلا: "إذا كنت مُسلمًا فاتق الله! ...." الرواية ص 19. في مصر أيام الزمن الجميل، كانت الناس الطيبة تعيش في ود وسلام، ولم نسمع أبدًا هذه النعرات الطائفية البغيضة، بل لم نسأل أبدًا: إن كان هذا مسلم وذاك مسيحي، الجميع مصريون، الجار له حقوق، ألم نتعلم ونحفظ في مدارسنا الأولية حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "لا زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"؟! هذا ما فعلته الست أم حسين، جدة يوسف، عندما مرض يعقوب ابن جارتهم المسيحية، أخذته أم حسين، وملأت حجره بالتمر، ووضعته أمام الباب الرئيس لمسجد سيدنا الحسين، فعرف الناس أنه مريض ويطلب الدعاء، تجمع الناس حوله بعد الصلاة يأخذون من حجره حبات التمر ويدعون له بالشفاء، فزع يعقوب وراح يصرخ بصوتٍ واهنٍ: "خالتي أم حسين ... خالتي أم حسين... قال جدك لأمك: أليست هذه أم حسين التي ظلت بعد ذلك تردد: شي لله يا حسين ...؟!! وهي ترد عليكِ: بركات العدرا أم النور ...."؟!! الرواية ص 55 ظاهرة التشظى كثيرة في حياة يوسف حسين؛ بل إن حياة يوسف عدة شظايا متناثرة طوال فصول الرواية، حتى قصص كراسة يوسف الزرقاء تعكس حالة التشظي والتفتت التي عاني منها طوال أحداث الرواية، حالة التشظي هذه تظهر وتغيب لتخلف وراءها مساحات هائلة من الفراغ، لحظات قاتلة بين أنياب الهم وتشتت النفس، بين خيارات عديدة أحلاها شديد المرارة، هذه اللحظات لا تمحوها شقاء الذات التي تتذكر، تحلم، تفتقد الأحبة، لحظة تُحاول فيها الذات القبض على جمر المستحيل، وهي تقطر حُزنًا وألمًا من تشظى الذات الراوية في مداراتها اليومية، وهي تتكشف لها كل يوم عوالم مجهولة، وكلما زاد تشظى الذات ضاق أفقها، ولم يعد لديها القدرة للاختيار الصحيح وإدراك ماهية الحياة. إن سقوط الذات في نهاية الأفق يُسيّج حدود هذه الذات، وهي تسعى جاهدة ولاهثة خلف المستحيل لإدراك لحظة وجودها المعرفي كي تحاول إعادة كتابة تاريخها مرة ثانية، وهي تنفض التراب عن ثوب السقوط بعد الانفصال عن ذكريات الماضي القريب والبعيد، ربما كان هذا الانفصال هو ما تفرضه علينا تشظى الذات، وهي تحاول جاهدة إدراك جماليات جديدة في حياتها اليومية؛ لينصب على فهم عمق التجربة الإنسانية نفسها. أليس الإيمان هو القدرة على العطاء والتضحية من أجل الآخرين؟ أليس الإيمان هو الاختبار الحقيقي لقدرتنا على الانصهار كشمعة تهب الأحبة مزيدًا من سبل الحياة الرغدة؟ لقد نجح الكاتب أن يُلملم ذات يوسف حسين المتشظية عبر تجاربه الإنسانية والحياتية وصوغها في لوحات قصصية، تشي بها المشاهد البصرية المتجاورة في سخرية مأساوية حين تواجه الذات الراوية إشكاليات واقعنا المعاصر.