دموع تتراقص فى العيون، وقلب يترنح مذبوحًا من الألم، على لحن أنين شجى، يختلج به صدر هذا الزوج، الذى يعتصر ألمًا وترقبًا، كله حيرة وقلق.. على جسد أهلكه العمر، وأتت على شبابه الأيام، فيبدو أن الفراق آت، وهو لا محالة آت، فالأجل إذا جاء لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، كما أنبأنا العليم الخبير، وكما تطلعنا قسمات وجه الزوج، وملامح عينيه، التى قطعت شوطًا فى مراسم التأبين، وشاركت شخوص على وجهه، فى موكب جنائزى حزين، قبل أن يبدأ.. وعادة لا تخيب الظنون فى مثل هذا العمر، فمن كان يشعر طيلة حياته متى كانت تتراقص الحياة فى أوصالها، هو نفسه من سيعرف متى ستنسحب من فوق خشبة مسرحها، ومن كان يعرف طيلة حياته متى كانت تزداد ضربات قلبها سعادة، هو نفسه من سيعرف الآن أنها آخذة فى التوقف، ومن كان يجلس تحت أنفاسها، يشعر بأنس شهيقها، ودفء زفيرها، هو نفسه من سيعرف الآن أن الأنفاس بدت متلاحقة متعجلة - تمهلى يا رفيقة العمر - وكأنها أخبرته كم تبقى لها من أنفاس، وهو الوفاء فى أجل صوره، فما خبأت عنه شيئًا، ولا حجبت عنه قولًا، حتى فى بقايا العمر. يرمى الرجل بسهام نظراته، مخترقًا بإيلام، وإيلاف عشرات السنين التى مضت .. إيلام سنوات عجاف، أتت على الأخضر منها، واليابس .. امتصت رحيق زهرتها، وشذاها، وتركت له غلافًا خالى الوفاض، وأوراقًا أبلاها الدهر تنبئ بقاياها عن نضارة كانت، وعبق كم عطّر صدره، وشرح فؤاده. ترقد اليوم فى صمت أمام عينيه بقايا أنشودة، كم تغنى بحبها، وعزف على أوتار قلبها لحن وفائه.. تلك الزهرة التى كم تشمم منها رائحة الوجود، وعبق البقاء.. عاش فى كنفها وبين حنايا أضلعها أجمل سنوات عمره، فكانت عروسه، التى حلّق معها فى آفاق الحب، والحنان، محمولًا على أجنحة وجدانها .. ملتحفًا بشغاف قلبها .. متهدهدًا بكفيها اللتين سقتاه الحب سقيًا، وصبتا فوق رأسه الود صبًّا، كما تنبئ ملامح وجهها التى حملت السماحة والطيبة لسنوات طوال .. ما بخلت فيها بوجدان، وما ضنّت فيها بحب، وإيلافًا منه لربيع عمرها، وبعد أن بثت له من نفسها الطاهرة رجالًا كثيرًا ونساءً، وزينت حياته بزينة الحياة الدنيا، من بنين، وحفدة. يعرج الرجل بنظراته على درجات عمرها، وسنواته.. متأملًا كل محطات سخائها.. دارت أمامه الآن ماكينة عطائها، مدوِّية بهدير العرفان، الذى يعلو فى أذنيه، مع كل مولود من أبنائه .. كم حملت وهنًا على وهن .. كم وضعت كرهًا وعذابًا .. كم أرضعت من رحيق عافيتها .. كم فطمت، وتحملت آلام فطام وليدها .. كم سهرت ليالى، تؤنس القلق من أبنائها، وتهدهد النائم منهم، وتطبب المريض، وتنتظر الغائب، وتودع المسافر.. يا له من عطاء لا يضاهيه عطاء، وكيف يرد عليه الزوج إلا بدموع عينيه، وملامح وجه يعترف، معلنًا عرفانه بطيب عشرتها. يعرج بنظراته فوق جسدها المنهك، بعد أن أعطى كل ما لديه، فازداد قدسية فى نظره.. يزين جسدها وجهٌ بشوشٌ، وقلبٌ عامرٌ برضا الله، وتقواه، وذكره، الذى تنطق به حبات مسبحتها، التى تتدلى من خلفها، شاهدة على نورانية الروح، وبركة أصابعها، التى كم انسابت بينها حبات هذه المسبحة.. مُسبِّحة ربها ثلاثًا وثلاثين .. حامدةً ربها ثلاثًا وثلاثين .. مُكبرةً ربها ثلاثًا وثلاثين .. بعد أن أدت فرض ربها، وفرض أبنائها، وأحفادها، على مدار عمرها الذى ولى، ومازالت حتى الآن تؤنس وحشة زوجها، بأنفاسها الدافئة، وتشيع الأمل فى غرفتها بضربات قلبها الحانية، ودعواتها التى لا تنقطع لزوجها، ألا يضل من بعدها، ولا يشقى، وألا يجوع من بعدها، ولا يعرى، وألا يظمأ من بعدها، ولا يضحى.. وما العجب وهى قبس من رحمة الله فى الأرض.