عبر شرفة منزلها المطلة على شقته، كانت تتهادى إليها نسمات عليلات يحملن عبق الحنين والشوق، مزدانة بخفقات قلبه التي على وقعها يتدفق الدم في أوصالها. ذلك الشاب اليافع ابن الجيران الذي يملأ السمع والبصر. ولم لا تهفو إليه روحها وقد بات محط أنظار كل فتيات الحي ومثار إعجابهن حسبًا ونسبًا؟ وعلى قدر ما كان يدق قلبها لسيرته، كانت تتراقص مشاعرها كلما لمحته عيناها مارًا داخل شقته. متخفية وراء ستائر غرفتها حتى لا يفتضح أمرها الذي لم يعد خافيًا على جوارحها. فكثيرًا ما أقمن على ذكراه قصصهن وأحاديث ما بعد منتصف الليل، فقد قرت العين، وطربت الأذن، وخفق القلب، وتصبب الجبين عرقًا في سيمفونية رائعة من صدق الجوارح. بعد أن بات جارها هو ساكن القلب وضيف عزيز على الروح والوجدان. كانت تداعب أنوثتها نسمات ربيعه كلما هبت من شرفتها. تروي ظمأ قلب متعطش، وتثمر وردات ربيعية النضارة على وجنتيها. فما نامت إلا لتستيقظ على شرفتها لتزيح الستار عنها وعن مكنونات نفس الحبيب وحديث قلبه. هل يشعر بي؟ هل يحبني كما أحبه؟ وما استيقظت إلا لتنام ليلها حاضنة ذكراه لتهمس في أذنه فقد يجيب بعد أن ناجته كثيرًا في نهارها ولم يجب. داهمتها سيرته، خياله، عبقه، شهيقه، وزفيره. طنينه العذب الذي يلفها، يعتصرها، جدائل من الغرام تتدلى من سقف غرفتها. نجمات متلألئات تضيء ظلمتها. سحر يعيد صياغتها. يعيد ترتيب أثاثاتها؛ فهو خلف شباكها، وراء ستائرها، تحت وسادتها، بين أوراق كتبها، يرافقها. حدثته ذات مرة. وقفت في منتصف غرفتها واضعة كلتا يديها على كتفيه. تناجيه. تناديه. تناشده الإحساس. ولكن سرعان ما أنزلت يديها إلى جانبيها حسرة وندمًا، فهو ليس معها وإنما في شقته المجاورة لها. يحدثها قلبها وتصدقه القول: إنه قادم لا محالة. آت لا شك. وكيف لا يأتي وحرارة أنفاسها تكاد تلهب سكان الحي كله؟ كيف لا يأتي وضربات قلبها تكاد تطرق بابه؟ كيف لا يأتي وصوت أنينها يسمعه الأصم. وحالها بات يراه الأعمى؟ وفي يوم سمعت ضوضاء وجلبة. سارعت تنظر من شرفتها فإذا بعربة كبيرة جار تحميلها بأثاث ومنقولات علمت أنها لأسرة الجار الحبيب، بعد أن قررت الأسرة نقل محل الإقامة لأسباب لا تعلمها. انخلع قلبها وتمزقت أوصالها وانحسر عنها الأمل تاركة أيامها تقرر المصير. عادت لغرفتها تسبقها الدموع لتحكم غلق أبوابها. تسدل ستائرها علها تبقي على عبق نسماته وذكريات جميلة رحل صاحبها. انخرطت فى حياتها الأسرية، ليس طوعًا منها. عادت إلى حيث تمارس ما كان وقفًا عندها. وجدت ضالتها ذات يوم في الصبر والسلوان يوم أن دعتها إحدى صديقاتها لحضور حفل زفافها. رحبت، تهللت. حفل قد يخرجها من كبوتها النفسية، حيث صديقات العمر. أعدت هديتها. اصطحبت باقة ورد للعروسين. وصلت للمكان. دخلت بهو قاعة الحفل. تقدمت في اتجاه العروسين. وعلى بعد خطوات قليلة وقفت وكأن على رأسها الطير. تسمرت تدقق النظر، فإذا بالعريس هو ابن الجيران الذي رحل. تفككت أوصالها. سقطت ذراعاها إلى جانبيها. وتساقطت وردات التهاني. سقطت مغشيًا عليها. وتبعثرت الوردات تحت الأقدام. نزفت المشاعر على أرض زفافه. سالت الأحاسيس لتدوسها الأقدام وكأنها تتمنى أن تهين مشاعرها التي أحبته. نقلت إلى شقتها بعد إفاقتها. دخلت إلى غرفتها مسرعة تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها. تزيح الستائر عن آخرها طاردة ما كانت محتفظة به من ذكريات لم تعد إلا آلامًا وجراحًا. هدأت. استقر وجدانها. جلست على كرسيها. ولكنها استدارت هذه المرة مولية ظهرها إلى حيث كانت تأتي الذكريات، مقبلة بوجهها إلى آية قرآنية معلقة "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون". صدق الله العظيم. هبطت سلم وجدانها. نزلت بساحة قلبها تعيد ترتيب أثاثاته. تعيد تنسيق أركانه. أعادت فتح نوافذه من جديد لعل زائرًا جديدًا يأتي حاملًا لها باقات النسيان.