خمسون عامًا تمر هذه الأيام على هزيمة يونيو، وما زال هناك من يزيد ويعيد باعتبارها أم الكوارث، وأنها كانت نتيجة حتمية للنظام (العسكري) الذي جاء مع (انقلاب) يوليو 1952! في ظني أنه من المستحيل فهم وتحليل العويل الصاخب الذي واكب ما حدث في 5 يونيو 1967 وما زال إلا في إطار القراءة الصحيحة والواعية لتجربة التحرر الوطني الوليدة، ولمشروع جمال عبد الناصر التحديثي/ الثقافي المغدور، حيث أعلن الحاقدون والحاسدون والكارهون بشماتة - وما زالوا- أن ما حدث في يونيو آنذاك يعد هزيمة نكراء أضاعت الأمة، وأن عبد الناصر مجرد ديكتاتور كذوب خدع الناس، ليس المصريين فحسب، بل العالم العربي كله، وأن مشروعه الوطني ليس سوى سلسلة صدئة من الوهم والنصب والخداع، ناسين عمدًا أن المصريين استردوا جسارتهم بعد الهزيمة وخططوا بمهارة فنجحوا في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973! تعالوا نحاول تقديم قراءة جديدة ومغايرة لما حدث بيننا وبين إسرائيل قبل 50 سنة؛ حتى يمكن لنا فهم أنفسنا بصورة أفضل من ناحية، ونفضح ألاعيب الذين خططوا لطعن هذه الأمة العربية في سويداء كرامتها من أجل أن تبقى بعيدة عن العلم والثقافة، أسيرة المذلة والهوان والفقر والجهل من ناحية أخرى. الكل يعرف أن عبد الناصر لاح كالشهاب في ليلة فارقة في تاريخ الشعوب العربية. ليلة معتمة منحت الاستعمار لذة التلاعب بنا ونهب خيراتنا. جاء الرجل رافعًا راية التحرر من هذا الاستعمار، ومبشرًا بتشييد مجتمع مصري حديث، وقد اتخذ الكثير من القرارات المهمة على الصعيدين المحلي والدولي بصدد تنفيذ مشروعه الطموح، معظمها أصاب وحقق نجاحات باهرة، وأقلها خاب وأضرّ كثيرا. في المقابل لم تسكت القوى الغربية على هذا المارد العربي الذي انبثق من رماد الشرق، بخاصة وأن الجغرافيا العربية تخبئ في صحرائها الشاسعة كنز العصر الحديث، وأعني البترول الذي يدخل ضمن أربعة آلاف صناعة غربية. ولعل هذا ما يفسر تلمظ القوى الكبرى على منطقتنا وحفاوتها بإسرائيل وحمايتها بكل السبل حتى تصبح (الغول) الذي يخيف أمة العرب ويهددها. في إطار محاربة مشروع عبد الناصر لم تعدم قوى الغرب وجود بعض أنظمة عربية كارهة للرجل وموالية للاستعمار، ومن منطلق الخوف الشديد على مصالحها دعمت هذه الأنظمة الكارهة التيارات التي نصبت لعبد الناصر العداء، ومعظمها تمثل في تيارات متشددة دينيًا لا تجد أية غضاضة في السير على الصراط الرأسمالي المستقيم الذي خطته القوى الكبرى، والذي يقضي بتراكم الثروة والسلطة في أيدي حفنة قليلة من الناس، في حين يكابد الملايين حياة بائسة مكللة بالفقر والجهل والمرض (هناك حاليًا نحو 100 مليون أمي عربي، لا يعرفون القراءة والكتابة، من نحو 400 مليون نسمة). من هنا نشأت الضرورة لإبرام تحالف مشبوه يسدد ضرباته لعبد الناصر ومشروعه التنويري الداعي للاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية. ضم التحالف ثلاث قوى رئيسة هي: الاستعمار الغربي وربيبته إسرائيل، وبعض الأنظمة العربية المتكلسة، وتيارات التأسلم السياسي بتنويعاتها المختلفة. هؤلاء تكالبوا على مصر ونظامها ونجحوا في آخر المطاف في ضرب المشروع الوطني الوليد وتفكيكه. (تذكر من فضلك أن الشيخ محمد متولي الشعراوي أعلن عن أنه صلى ركعتي شكر لله حين انهزمنا في يونيو 1967 حتى لا ننتصر على إسرائيل بسلاح روسي؛ لأن الروس كفار). خططت هذه القوى إذنا للعدوان على مصر عبد الناصر في 5 يونيو 1967 ونجحت في ذلك بامتياز، ثم استغلت هذه الهزيمة لقتل ما هو أهم، وأقصد الجهاز النفسي الطموح لدى الشعب المصري كله، بالإضافة إلى الشعوب العربية التي آمنت بتجربة عبد الناصر وهتفت له بحب واقتناع. وهكذا روجت هذه القوى البغيضة، وما زالت، إلى أن هزيمة 5 يونيو كارثة كبرى على الأمة، وأن احتلال سيناء نهاية العالم، وأن عبد الناصر شيطان أسود، وأن المصريين، والعرب عمومًا، ظاهرة صوتية لا تسمن ولا تغني من جوع. ثم جاء السادات والجماعات المتأسلمة لينفخوا في هذه الأفكار المشبوهة، ويزرعوا في صدور الناس حنظل الإحباط، ويؤكدوا لهم أننا بلا قيمة، وأن مشكلاتنا مع إسرائيل بيد أمريكا، لا بيدنا، فكما قال السادات بالنص (إن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا)، وأنه لا مستقبل لمصر إلا بالانصياع التام لمفاهيم وقرارات وتعليمات صندوق النقد الدولي. وقد استغل إعلام السادات ومبارك من بعده ذكرى الهزيمة لينكلوا بعبد الناصر ومشروعه كل عام، باعتبار أن ما حدث في 5 يونيو كان بمثابة مصيبة لا يمكن تجاوزها، ولن نستطيع الفكاك من أسر نتائجها المخزية. لقد تناسى هؤلاء بعمد أن الحروب بين الدول المتجاورة أمر طبيعي، وأن النصر إذا حالفك مرة، فالهزيمة قد تصيبك مرة، وأن هتلر،على سبيل المثال، قد احتل فرنسا كلها، (وأكرر احتل فرنسا كلها) في الحرب العالمية الثانية، وأنه أسقط النظام الحاكم هناك، وأن الجيش النازي ظل يتسكع في شوارع باريس عامين كاملين، وأن هتلر فرض على فرنسا حكومة موالية له (حكومة فيشي)، بينما إسرائيل لم تحتل من مصر سوى سيناء، ولم تزحف دباباتها على العاصمة المصرية، ولم تستطع تغيير نظام الحكم المعادي لها، ولم يرَ المصريون جنود الدولة العبرية يتجولون في شوارع القاهرة وأزقتها. اللافت للانتباه أن عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية (1939/1945) تجاوز 60 مليون إنسان، وألمانيا نفسها خسرت نحو خمسة ملايين من جنودها ورجالها في هذه الحرب، بينما شهداء مصر والعالم العربي في معركة 1967 لم يتجاوز عددهم 25 ألف شهيد فقط. أجل، لقد كان الهدف محددًا وواضحًا ومشبوهًا من هذا الإلحاح اليومي والسنوي على أن هزيمة 1967 هي نهاية العالم، إذ سعى هذا الهدف المريب إلى كسر الإرادة الشعبية لملايين المصريين، ومحو أية ذكرى طيبة لرجل حاول إيقاظ الشعور الوطني وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، فضلًا عن تعزيز العمل الثقافي والإبداعي وإطلاق عصافير الفرح وحب الحياة في أفئدة الملايين. أرجو ألا تظن أنني أبرئ عبد الناصر من مسئوليته عن هزيمة يونيو، فالرجل لا شك أخطأ الحساب السياسي وأخفق في تقدير خبث خصمه وألاعيبه، لكني أهدف فقط إلى كشف السر وراء هذا النواح السنوي كلما أهل علينا يونيو بقيظه الحارق، أو أطلت ذكرى الزعيم في سبتمبر اللطيف. ولعلك لاحظت حجم الانسحاب من الحياة الذي اعترى غالبية المصريين طوال العقود الأربعة الأخيرة، حيث لاذوا بالتدين الشكلي فأطلقوا اللحى وأطالوها، بحثاً عن حياة أفضل في السماء بعد أن خابت آمالهم في الأرض! علمًا بأن هذا التدين الشكلي لم ينعكس في سلوك متحضر بكل أسف، إذ شاعت الرشوة وانتشر الفساد وتراجعت فضيلة إتقان العمل بصورة مخيفة بيننا نحن المصريين، في إشارة واضحة إلى تراجع الدور الثقافي في تعزيز روح المقاومة وتجاوز آثار الهزيمة. باختصار: علينا وضع هزيمة يونيو في سياقها التاريخي، لا تهويل ولا تهوين، واعتبارها مجرد هزيمة عسكرية عادية من السهل أن تتجاوزها الشعوب على المستويين النفسي والثقافي في المقام الأول، حتى يمكن لنا الالتفات إلى ما ينبغي عمله، وهو كثير، من أجل استعادة الهمم والآمال لتحقيق مجتمع أكثر حرية وعدلًا وجمالًا وإنصافًا.