عين شمس، أحد الأحياء الشعبية في عاصمتنا (المحروسة)، والتي شهدت جولة الإعادة فيها منافسة انتخابية قوية بين قطبي الإسلام السياسي "الحرية والعدالة" الإخواني، و"النور" السلفي. في هذا السياق العام كَثُر الحديث عن مصير الحريات العامة في مصر بين السخرية والتنكيت في فضاء الإنترنت، ومابين مقالات النقد والتحليل في صفحات الجرائد، مرورًا بجميع برامج (التوك شو)، نعى الجميع مدنية الدولة واختصر الكل معنى الحريات العامة في المشرب والملبس والمعشر، واختل المنطق لحظة أن انشغل النشطاء والمثقفون بالقشور عن اللباب، فضاعت معهم الحكمة يوم نصروا المظهر على الجوهر. أثبتت نتائج الانتخابات فى المرحلتين الأولى والثانية انحسار تأثير من عرفوا -اصطلاحا- بالنخب، فالمواطن العادي في واد غير الوادى الذي يقطن فيه كثير من النشطاء والمثقفين، إلا قليل منهم من كانت له صلة بالدراسات والاستطلاعات لقياس الرأي العام ومعرفة اتجاهاته. النخب المخملية من ساكني البروج العاجية لا يرون في مصر غير قصيدة لشاعر أو رواية لأديب أو تمثالا لنحات، فقد آثرت - رغم إجلالي لما سبق- البحث في قاموس البسطاء عن مفهومه الخاص للحريات العامة دون حجب أو زيف. ذهبت إلى حي (عين شمس) في زيارة عائلية، كنت أجول بناظري بحثا عن سرادق خالتنا (مدنية)، فوجدت مشهدا أعاد إلى ذاكرتي فيلم (الفرح)، الذى قام ببطولته الفنان خالد الصاوى وأخرجه سامح عبد العزيز، حيث التحضيرات على قدم وساق استعدادا لحفل زفاف أحد شباب شارع (أحمد عصمت)، اقتربت من أحد الشباب وبادرته بالتحية والتهنئة فرد بأحسن منها لا مثلها، وأصر على استضافتي. اسمه (تامر) وكنيته (أبو ملك)، يعمل في تنظيم وترتيب حفلات الزفاف أو (الجمعية) كما أسماها، استغربت كلمة جمعية، وبالغريزة الصحفية، سألته إمكانية طرح بعض الأسئلة بخصوص هذا الشأن، فرحب بذلك واستهل حديثه عن تجمع الشباب في مناسبات الأفراح ومجاملة صديقهم (العريس) بما يعرف ب (النقوط)، حيث تكون حصيلته كبيرة - نوعا ما- تكفي للبدء فى مشروع يساعده على بناء أسرة كشراء تاكسي أو ميكروباص مثلا أو تعينه على شراء شقة أو حتى تجهيزها، ليعود بعدها هذا الشاب ويرد هذه (النقطة) إلى المهنئين كل في مناسبته الخاصة، وبذلك تعم الفائدة على الكثير من الشباب وأسرهم وتساعدهم على الزواج، خاصة في ظل ما نعانيه فى هذه البلد من أزمات الاقتصادية. ينقطع حديثه كل بضع دقائق، تارة بسبب مكالمات هاتفية يتلقى من خلالها الدعوة لحضور فرح أحدهم مع تكليف بتذكير المدعوين بقسط الجمعية وهو (النقوط) في هذه الحالة، وطورا آخر لمباشرة إشرافه على ترتيبات الزفاف. لاحظت وجود بعض العاملين وهم منشغلون بترتيب أطباق لبعض الأطعمة، وعند استفساري جاءتني الإجابة بأنها (المَزة) -بفتح الميم- حيث يتم تقديمها في الفرح للضيوف مع البيرة التي كانت صناديقها تتواجد في مكان ليس ببعيد، فمثل هذه المشاهد -حسب حديث أبو ملك- طبيعية ومعتادة في الأجواء الشعبية، فلا يكتمل الفرح إلا بوجود الراقصات والحشيش والبيرة، مع الاعتذار للمصريين فهذه حقيقة وواقع موجود. بعد قليل انضم إلينا مجموعة من الشباب، ألقوا التحية بأدب جم، وكان أحدهم هو العريس، اسمه (سيد) وشهرته (كيمو)، تبدو عليه علامات التعب والإرهاق، باركت له ببعض عبارات التهنئة، وجلس الجميع من حولنا يتابعون حديثي مع (أبو ملك) باهتمام واضح. بالطبع ونتيجة لما تشهده الساحة السياسية من تصريحات هنا وهناك على لسان مروجى فكرة مصر الإسلامية والعودة للعصور الاسلامية آثرت إشراكهم بغرض معرفة آرائهم، فهم الشريحة العريضة فى مصر، أو كما يسمونها النخب بالكتلة الصامتة، فسألتهم عما سيفعلونه في حال وصول الإسلاميين للحكم، أجابني (كيمو) -مستغربا سؤالي- بأنه ما من أحد يستطيع منع ذلك وإلا فالنتائج ستكون كارثية، فالغالبية من شباب هذه المناطق لن يتمكن من الزواج و (الدخول في الدنيا) على حد تعبيره، وهذا لا يرضى بشر. قاطعه شاب آخر، اسمه (محمود) وشهرته (البلدوزر)، أخبرني أنه صاحب محلات (الفِراشة) -بكسر الفاء- وهو المسئول عن نصب شادر الفرح وتجهيزه بالمسرح والكراسي والطاولات والإضاءة، ويعمل في هذا المجال منذ الصغر مع والده، بالإضافة إلى نحو 25 شخصا، يمتهنون هذه الحرفة كمصدر رزقهم الوحيد، ويعيلون أسرهم بشكل كامل، فالأفراح ليست (نقطة) أو (جمعية) فقط -بحسب البلدوزر- ولكنها (صناعة) و (منظومة كاملة)، ومنعها يعني فقدان العديد من الشباب لأعمالهم ومصادر دخلهم. "لولا الأفراح لم أتمكن من تزويج بناتي"، كانت تلك كلمات رجل في الخمسينيات من عمره، اسمه عم أحمد وشهرته (أحمد بيرة)، ويعمل بمجال بيع (البيرة) في الأفراح فقط -كما أكد (هيما)- مسئول وحدة الصوت، والذي يعمل لديه 5 شباب يقومون بتجهيز الأفراح بالسماعات والميكروفونات وخلافه. "أين سيذهب هؤلاء جميعا ؟" تساءل أبو ملك الذي استطرد قائلا: "لم تستطع السلطات على مر سنوات عديدة منع كل هذا، فالأفراح تتم بهذه الصورة منذ زمن، وإذا حاول أحد منعها فسيجابه بالقوة، وقد سمعت أحد قيادات السلفيين يقول إنهم سيغلقون شارع الهرم بمسارحه ونواديه الليلية، لا أدري هل يعي هذا الشيخ خطورة ما يطالب به، فماذا سيفعل (ص.ن) وهو الذي ينظم عمل (البودي جاردز) في شارع الهرم مع رجاله؟ سيتحولون إلى (ميليشيا) و (مافيا) بالتأكيد، عندها سنعالج ظاهرة بكارثة لا أحد يمكن أن يتصور عواقبها". أخبرني العريس (كيمو) بأن للأفراح مكاسب اجتماعية أيضا، حيث تساهم من خلال انتشارها بين أهالي وشباب الحي و الأحياء المجاورة إلى التقليل من إمكانية حدوث المشاكل والأزمات، فالجميع له معارف في هذا الشارع أو ذاك وهو ما يساعد في حل أي إشكال واحتوائه قبل أن يتفاقم الضرر. هؤلاء الشباب وغيرهم الكثير الذين خلقهم الله فى ظروف لا يقدر على تحمل اعبائها بشر ولكن صمودهم انجب حلولا لمشاكلهم، فى محاولة منهم للتعايش مع أوضاع ليس لديهم أى ذنب فيها بل على العكس تم اضطهادهم من جميع أنظمة الدولة وجرحتهم نظرات علية القوم –قاطنى طرة حاليا- وظلوا مهمشين حتى بعد الثورة التى نزلوا جميعا للمشاركة فيها على أمل يسر فى العيش وليس من أجل وأد عاداتهم وحلولهم المبتدعة لمشاكلهم. كثرت الحركة من حولنا ونحن نتحاور، وأحسست حينها بأني قد أثقلت عليهم، تقدمت لهم بالشكر الجزيل على حسن ضيافتهم وسعة صدرهم.