ما بين الدعوة التى اطلقها ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الاسبق، فى سبتمبر 1946 فى مدينة زيورخ بسويسرا، وبين التهديدات التى اطلقها دافيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى الحالى ممثلة فى اجراء استفتاء حول استمرار عضوية بلاده فى الاتحاد الاوروبى، تأرجحت المواقف البريطانية ازاء القارة الام، بين الرغبة فى الانتماء والانضواء، او الركون الى سياسة العزلة فى اطار الحدود الجيبوليتكية والعلاقات الوثيقة التى تربطها بالولاياتالمتحدة، امتدادا للتحالف الانجلوسكسونى الذى افرزته الحرب العالمية الثانية. ذلك هو الواقع الحالى بين بريطانيا والقارة الام، الذى يعود بجذوره الى سنوات طويلة الى الوراء، بل ان هذا الوضع يسجل شهادة ثقة وحق، للرئيس الفرنسى الاسبق شارل ديجول الذى استخدم الفيتو مرتين، منذ عام 1961 لرفض انضمام بريطانيا الى السوق الاوروبية المشتركة، مستندا الى ان تحالف لندنوواشنطن، يصب فى غير مصلحة مشروع اوروبا الموحدة بل يضعفها، لان الوضع فى هذه الحالة اقرب الى حصان طروادة. وبالفعل لم تنضم الا بعد مغادرة ديجول منصبه بالاستقالة فى أعقاب استفتاء سياسى، طرحه حول مشاكل سياسية داخلية. - القضية الشائكة ومن الامور المثيرة للانتباه، ان حزب المحافظين هو الذى نجح فى الوصل بين بريطانيا والقارة الام فى عام 1973 وذلك خلال تولى ادوارد هيث منصب رئيس الوزراء، حيث قبلت عضويتها بالاضافة الى كل من الدانمارك وايرلندا، بينما رفضت النرويج الانضمام فى ظل استفتاء عام، كما ان ذات الحزب فى ظل قيادة دافيد كاميرون، هو الذى طرح قضية العضوية فى الاتحاد الاوروبى خلال حملته الانتخابية العام الماضى 2015 من خلال التعهد بالتفاوض واجراء استفتاءعام حدد له شهر يونيو 2016 ناهيك عن ان تشرشل هو الذى اطلق الدعوة الى (اوروبا موحدة من خلال اقامة بناء يعيش فى ظله الجميع فى سلام، وامن، وحرية وفى صيغة تقترب من الولاياتالمتحدة الاوروبية، ليتشارك الجميع البهجة والامل، وقد اعرب الرئيس الامريكى ترومان عن اهتمامه وتعاطفه مع هذا التوجه. الا انه مع صدور اعلان شومان فى 9 مايو 1950 الخاص بإقامة الجماعة الاوروبية للحديد والصلب وتوجيه الدعوة الى بريطانيا للانضمام الى التجمع الذى ضم ست دول (ألمانيا- فرنسا- إيطاليا- هولندا- بلجيكا-لوكسمبورج) فى عام 1951. تحولت العلاقة بين بريطانيا واوروبا الموحدة الى قضية شائكة سممت العلاقات بين الاحزاب فى بريطانيا، بل فى داخل هذه الاحزاب، وكانت البداية رفض الانضمام الى المجموعة والى اتفاقية روما فيما بعد - 1957- ولكن مع ظهور ثمار النجاح الاقتصادى لكل من ألمانياوفرنسا فى ظل السوق الاوروبية المشتركة- بعد توقيع اتفاقية روما-سعت بريطانيا الى الانضمام الذى كان، بعد مفاوضات شاقة دامت اثنى عشر عاما. ومنذ ذلك الحين ظلت العلاقات البريطانية مع التكتل الاوروبى اقرب الى الشريك المخالف، عن دور العضو المتحالف. ومن المثير للتعجب انه على الرغم من الاستفتاء العام الذى اجرى عام1975 حول العضوية فى التجمع الاوروبى، والذى جاءت نتائجه فى مصلحة العضوية بنسبة 67 فى المائة، الا ان الجناح اليمينى داخل حزب المحافظين وكذلك جناح اقصى اليسار فى حزب العمال التقيا فى معارضتهما لعضوية بريطانيا فى التجمع الاقتصادى الاوروبى، وذهب المعارضون فى حزب العمال الى ابعد من ذلك حيث انشقوا وكونوا حزبا جديدا. كما انه من المثير للدهشة ان النرويج وهى دولة صغيرة مقارنة ببريطانيا الا انها اصرت على موقف الرفض للانضمام فى السبعينيات وكذلك فى عام 1994 وعلى الرغم من انضمام جيرانها الاعضاء فى منطقة الافتا. فإن هذه الدهشة تقابل بحقائق اقتصادية موضوعية، وهى ان الاقتصاد البريطانى كان فى أسوأ حالاته عندما طلبت لندن الانضمام وكانت ذروة الازمة فى السبعينيات ممثلة فى البطالة والتضخم واتساع نطاق الاضرابات، بينما كانت النرويج تنعم بالاكتشافات البترولية وارتفاع معدلات النمو وتراكم الاحتياطى النقدى، ومن ثم كان التكتل الاقتصادى الاوروبى بمثابة طوق النجاة لبريطانيا.. ولكن برؤيتها الخاصة. ففى بداية الخمسينيات، كانت بريطانيا تعيش نشوة النصر والعلاقات المتقاربة مع الولاياتالمتحدة، ووهم الابقاء على ما تملكه بدون تغير- على حد تعبير احد المؤرخين- فى ظل قوة بحرية وحدود جغرافية مانعة، تتيح لها اليد الطولى ومستعمرات تابعة، فكان التفكير الانانى، هو المطلق. ولكن مع استقرار الاوضاع فى اوروبا والنمو والسلام فى التكتل التجارى، رأت بريطانيا، ان صيغة المنافع المتبادلة افضل، فهناك التجارة والتعاون والتوافق الدبلوماسى. ومنذ الانضمام توالت المواقف البريطانية الشاردة عن التكتل الاوروبى، ووصلت الى الذروة بالاعلان عن الانسحاب من آلية سعر الصرف فى 16 سبتمبر 1992، فيما يعرف باسم الاربعاء الاسود، حماية للجنيه الاسترلينى، يضاف الى ذلك عدم الالتزام بالميثاق الاجتماعى او العملة الاوروبية الموحدة او اتفاق تشينجن للتأشيرة الموحدة، والجدل السنوى حول المساهمة فى ميزانية الاتحاد واعبائه المالية، والعلاقة الخاصة لبنك انجلترا فى مواجهة البنك المركزى الاوروبى. البحث عن مهرب أو إملاء الشروط لاشك فى ان الاتحاد الاوروبى نموذج يحتذى به فى مجال التكتلات الاقتصادية، بل السياسية الدولية وترنو إليه الابصار فى خطط التكامل الاقتصادى بين التجمعات الاقليمية، الا ان هذا النجاح صاحبته زيادة فى التحديات والاعباء الداخلية والخارجية. فزيادة عدد الاعضاء الى 28 دولة، كانت اخرها كراوتيا فى يوليو2013، كانت تعنى عبئا اكبر فى التعامل المالى وضبط الحدود والحفاظ على وجود العملة الاوروبية الموحدة. ولاشك ان ابرز تحديات الداخل، تتمثل فى الازمات المالية المتتالية، سواء نتيجة الازمة المالية العالمية الاخيرة، أو نتيجة ممارسات مالية غير مسئولة من جانب الدول الاعضاء، ومازالت احداث اليونان قائمة، وقبلها ايرلندا..الخ، مما ينعكس فى الضغط على اليورو (العملة الاوروبية الموحدة)، بالاضافة الى الضغوط السياسية التى تمثلها قضايا البطالة والركود وانخفاض معدلات النمو، او تزايد العجز فى الميزانيات العامة للدول بما يتجاوز نسبة ال 3 فى المائة . وكان من الطبيعى ان تترجم هذه التحديات الداخلية والخارجية، مع تعاظم التوترات الدولية، فى سعى الاتحاد الاوروبى الى اتخاذ مواقف سياسية واجراءات اقتصادية متلاحقة، من خلال تتابع لقاءات الرؤساء والمجلس الاوروبى. ولكن جاءت ازمة المهاجرين غير الشرعيين الذين تدفقوا على القارة الاوروبية من مناطق الصراع فى الشرق الاوسط، لتدق اجراس الخطر حول مدى امكانية تحمل اوروبا لهذا العبء؟ ووسط هذه الاجواء والتحديات، تعالت من جديد الاصوات البريطانية المطالبة بالعودة الى حدودها الجيبوليتكية، بعيدا عن تدفق المهاجريين غير الشرعيين، خاصة انها قد استوعبت ما يقرب من 2 مليون نازح من دول شرق ووسط اوروبا. واذا كان كاميرون قد لوح بالورقة الاوروبية من اجل الانتخابات العامة. فانها تحولت الى قيد، يقيد حركته، وقد اتضح ذلك فى اعقاب التفاهمات التى توصلت اليها فى القمة الاوروبية المنعقدة فى فبراير 2016، فقد أعلن دعمه بقاء بلاده فى الاتحاد، قبل اجراء الاستفتاء فى شهر يونيو، مما اثار العديد من معارضيه داخل حزبه وخارجه، فخرج عمدة لندن منددا بالاستمرار فى العضوية وكذلك رئيس اتحاد الغرف التجارية البريطانية - وقد اضطر الاخير للاستقالة- نظرا لاعلان الاتحاد الحياد. - ماذا يعنى الاتحاد الأوروبى.. لبريطانيا؟ على الرغم من ان بنك انجلترا قد حافظ على استقلاله فى توجيه دفة الامور فى النظام المصرفى والنقدى البريطانى، واذا كان الاتحاد الاوروبى قد صمد فى مواجهة الاقتصاد الامريكى، فتعاقبت لقاءات القمة الدورية بين الجانبين، واذا كانت واشنطن تسعى جاهدة الى انجاز المنطقة التجارية عبر الاطلنطى بين الجانبين، واذا كانت بروكسل قد ابدت مرونة تجاه لندن فى مجال الحماية والضمانات الاجتماعية للمهاجرين، مع عدم اجبار بريطانيا على المشاركة فى الخطة الاوروبية الخاصة بالهجرة غير الشرعية، الا ان الموقف البريطانى الاقرب الى الصلف والتأفف ظل على ما هو عليه. ويكفى ان نشير الى اللاءات الخمس التى اعلنها كاميرون (لن ننضم لليورو- ولن نكون شركاء فى خطة الانقاذ لان لدينا طريقنا الخاص للفعل وحفظ حدودنا-لا لمعاهدة تشينجن- ولا للجيش الاوروبى- ولا للدولة الاوروبية العليا). وحالما تصاعد الحديث عن ترك بريطانيا للاتحاد الاوروبى، توالت التحليلات والدراسات حول ما تمثله بروكسل بالنسبة للندن، ناهيك عن اثر التصريحات السلبية لعمدة لندن عن انخفاض قيمة الجنيه الاسترلينى وكذلك عن خطة الاتحاد بين بورصتى لندن وفرانكفورت. وقد اوضحت دراسة صادرة عن مركز الابحاث التابع لمجلس العموم البريطانى فى شهر فبراير الماضى، ان الاتحاد الاوروبى اكبر شريك تجارى لبريطانيا45 ٪ من الصادرات و53٪ من الواردات البريطانية من السلع والخدمات، فى عام 2014) . اكثر من 3 ملايين وظيفة ترتبط بصورة مباشرة او غير مباشرة، بالصادرات الى الاتحاد الاوروبى. تحتل بروكسل الصدارة فى قيمة ونسبة الاستثمارات الوافدة الى قطاع الاسهم والسندات البريطانية (48٪ من الاجمالى وبما تبلغ قيمته 496 مليار جنية استرلينى فى عام 2014). تمثل بريطانيا اكبر دولة جاذبة للمشروعات التى تتقدمها القادمة من اوروبا، تزايدت المشروعات الجديدة من504 فى عام 2012 - 2013 لى 658 مشروعا فى عام 2014 - 2015، وحققت 28250 فرصة عمل جديدة، فى العام الاخير. تشير الدراسات الى ارتباط المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالاتحاد الاوروبى، فى ممارسة نشاطها ولذا تحبذ الاستمرار، بينما الشركات الكبرى تسعى الى العكس لمزيد من المكاسب الدولية. الى جانب ما سبق، هناك قضية القناة التى تربط بين فرنساوبريطانيا عبر بحر المانش، والتى تمثل تهديدا بالتسلل الى بريطانيا عبر كاليه ودنكيرك، وهو ما حرص رئيس الوزراء البريطانى على التفاهم بشأنه مع الرئيس الفرنسى، بصورة ثنائية. ولعل فى الكلمات التى ادلى بها رئيس بنك انجلترا الاسبق مؤخرا، اصدق تعبير عن واقع العلاقات البريطانية مع اوروبا الموحدة، حيث قال (ان بلاده ستتأثر بمنطقة اليورو سواء بقيت او غادرت، وان الاتحاد الاوروبى يمثل اكبر شريك تجارى، حتى لو اعتبرت لندن ان الانضمام خطأ واقع). انها علاقة الشريك المخالف، الذى كان وسيظل كذلك.