نشأت منظمة أوكسفام فى مدينة أكسفورد البريطانية عام 1942 كجمعية خيرية هدفها مكافحة الجوع، ولكنها تحولت بمرور الزمن إلى منظمة بحثية تستهدف رصد وإزالة الأسباب التى تؤدى إلى انتشار المجاعات، ثم بعد ذلك تخصصت فى البحوث التى تظهر اللامساواة والتفاوت فى الدخول داخل النظام الاقتصادى العالمى الذى نعيش فيه. تقارير أوكسفام التى تتمتع بمساعدة أكاديمية جوهرية من جامعة أكسفورد الشهيرة، أصبحت الآن واحدة من أهم المؤشرات التى توضح عيوب النظم الاقتصادية فيما يتعلق بتزايد الهوة فى الدخول بين أصحاب الأعمال وكبار الموظفين وبقية العاملين فى إنجلترا وفى الغرب وفى أنحاء العالم. وعشية انعقاد الدورة الجديدة للمنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس الأسبوع الماضى «المنبر الرسمى لقادة الأعمال» أصدرت أوكسفام تقريرها الجديد الذى أكدت فيه ما يرد دائما فى تقاريرها من اتساع الهوة فى الدخول بين الأغنياء والفقراء، حتى إن 1% فقط من سكان العالم حصلوا على 82% من الثروات التى تحققت فى 2016، وإن 3.7 مليار نسمة لم تتحرك دخولهم خلال ذلك العالم، ثم استطردت بعد ذلك فى ضرب أمثلة كثيرة منها أن الدخل اليومى لأى رئيس تنفيذى فى شركة أمريكية كبيرة يعادل متوسط الدخل السنوى للموظف الأمريكى، وأن الدخل السنوى لأى مدير تنفيذى فى إحدى شركات الأزياء العالمية يعادل ما تتقاضاه عاملة فى مصنع ملابس ببنجلاديش طوال حياتها! إلى آخر هذه الأمثلة التى تستهدف توضيح مدى اتساع الهوة فى الدخول بين الأغنياء والفقراء. العدالة الاجتماعية قضية قديمة قدم نشأة المجتمعات، وقد عبرت عن نفسها عبر التاريخ بأفكار وفلسفات ونظريات كثيرة، وكانت غاية الإصلاحيين منح بعض الحقوق للعمال والمعدمين مثل تحديد ساعات العمل والحق فى السكن والعطلات والعلاج.. اليوم هذه القضايا غير مطروحة ومكاسب العمال والموظفين حول العالم تضمن لهم دخولا ثابتة وعلاوات دورية ومعاشات بعد التقاعد ومزايا اجتماعية عديدة فضلا عن تأمين ضد البطالة، ومع ذلك فإن الشكوى تتصاعد بوتيرة متسارعة من ازدياد الهوة فى الدخول بين الأغنياء والفقراء، ومنذ بداية الألفية انتشرت كتابات تنبه إلى أثر العولمة وما نجم عنها من أنماط اقتصادية فى إشاعة أجواء اللاعدالة لدى الموظفين والعمال فى الأسواق، قد رأينا كتابات بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد وهو يحذر من الآثار الاجتماعية لسيطرة فكر الليبراليين الجدد على الحياة الاقتصادية، وكان كتاب الفرنسى توماس بيكتى رأسمالية القرن 21 الذى صدر عام 2014 صدمة جديدة للسياسيين والاقتصاديين معا بعدما أثبت بالمعادلات الرياضية أن العائد على الثروة يفوق العائد من العمل فى عقر أوروبا والولايات المتحدة، وأثبت كذلك بأدلة يقينية فشل النظام الضريبى فى تحقيق وظيفته الرئيسية فى إعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع. ويمكن القول إن الإحساس الطاغى بعدم العدالة فى الدخول توازى مع سيطرة مدرسة شيكاغو ورائدها ميلتون فريدمان على الفكر الاقتصادى منذ ثمانينيات القرن الماضى، وهى المدرسة التى تدعو إلى عدم تدخل الحكومات فى الاقتصاد وترك الحرية للأسواق بحجة أنها قادرة على تصويب نفسها ذاتيا، ومع مقررات العولمة وفرصها وظهور الاقتصاد المعلوماتى وتعقد الأنشطة المالية والمصرفية، فقد دخل العالم فى شكل جديد من أشكال العلاقات الاقتصادية، حيث تسارعت دورات رأس المال وظهرت الدخول المليونية فى قطاعات عديدة، وسرعان ما ظهرت الآثار الاجتماعية لهذه التطورات متمثلة فى التفاوت الهائل بين الدخول، وسياسيا بالصعود السريع لليمين الفاشى فى أمريكا وأوروبا. صندوق النقد الدولى توقع، الأسبوع الماضى، أن يشهد العالم نموا خلال عامى 2018 و2019 هو الأفضل منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008 محققا نسبة نمو 3.9% وهذا جيد، ويدلل على أن آليات الاقتصاد تعمل بشكل جيد على صعيد النمو الكلى حتى وإن كانت هناك مشكلات فى مؤشرات الاقتصاد الكلى لدى كثير من الدول مثل عجز الموازنات وتفاقم ظاهرة الديون. ومع ذلك فإن قضية توزيع عوائد النمو على الناس بصفة عامة وعلى مواطنى الدول الناجحة اقتصاديا بصفة خاصة تظل مربكة للحكومات والأحزاب السياسية ولا سيما فى الغرب، ونحن نرى هذه المفاوضات الشاقة التى تجرى فى ألمانيا بين الحزب المحافظ والحزب الاشتراكى لاستمرار تحالفهما السياسى فترة أخرى، وفى القلب منها سعى الاشتراكيون للحد من توجهات أنجيلا ميركل والمحافظين من تبنى سياسات الليبراليين الجدد لخطرها على «السلام الاجتماعى» الألمانى، ما سيؤدى فى النهاية لصعود اليمين الألمانى.. أخطر أنواع اليمين الذى عرفه العالم.