طارت الطيور بأرزاقها، وقضى الأمر الذى فيه تنافس المتنافسون واقترع المقترعون، وباحت الصناديق بأسرارها، بعد فترة ترقب وانتظار، كانت مسرحا لكل الاحتمالات والحسابات والتكهنات والشائعات التى طالت كل الأجهزة والهيئات والجماعات، وفتحت الباب أمام سيناريوهات تفنن الجميع فى صياغتها بصورة تفوق خيال كبار الروائيين، حتى كان يوم الحسم والكلمة الفصل، الذى احتبست فيه الأنفاس وتسمرت العيون أمام الشاشات، كل يمنى النفس بأن تكون النتيجة لمصلحة مرشحه، لكن الإثارة بلغت ذروتها عندما أعلنت عقارب الساعة الثالثة بتوقيت القاهرة وعلت دقات القلوب وطغى صوتها على سكون الأماكن، لكن المؤتمر تأخر وطال الانتظار لأربعين دقيقة عن الموعد المحدد، ما تسبب فى اشتعال الأعصاب أكثر وأكثر، وفتح الباب أمام التفسيرات والتحليلات والتكهنات عن أسباب التأخير، ودخلت العادة المصرية الأصيلة على خط التفسيرات، وأعنى نظرية المؤامرة، فأنصار كل مرشح راحوا يفسرون التأخير على هواهم بفعل وقوعهم تحت تأثير التوتر والقلق الشديدين، ورأى كل فريق منهم أن التأخير يأتى لترتيب وضع ما لمصلحة المنافس، خصوصا وأن كل حملة كانت أعلنت فوز مرشحها حسب تقديراتها الخاصة، حتى كانت اللحظة التاريخية التى شرع فيها كتاب التاريخ صفحاته أمام إرادة الشعب المصرى التى ترجمتها صناديق الاقتراع، ليدون اسم رئيسه الخامس أو رئيسه الجديد لجمهوريته الثانية، وتعلقت الأنظار بالشاشات ووقف الجميع على أطراف أصابعهم ولف السكون كل الأماكن، فلا صوت يعلو على صوت المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، الذى قدم صورة عامة لكل ما دار فى العملية الانتخابية منذ بدء العمل فى اللجنة وحتى يوم إعلان النتيجة بكل أمانة وتجرد ودقة ومهنية. وخلال الكلمة التى تطرقت لكل التفاصيل وكشفت المستور، وما خفى من أحداث جرت فى بر مصر خلال عملية الاقتراع، وفندت كل الدعاوى وردت على كل الاتهامات، حتى وصلت إلى نقطة الحسم والقول الفصل بإعلان النتيجة ومعها اسم الرئيس الجديد. وكان المنصب من نصيب الدكتور محمد مرسى، مرشح حزب الحرية والعدالة، الذى حسم المنصب الرفيع لمصلحته بعد منافسة شرسة مع منافسه الدكتور أحمد شفيق، حتى بدا الأمر وكأنه أشبه بمباريات الوزن الثقيل فى الملاكمة والتى حسمتها النقاط لا الضربة القاضية بفعل الفارق البسيط بينهما، وهو الأمر الذى ينعكس على إعلان النتيجة كما فى مباريات الملاكمة القوية، إذ تخيلت الإعلان على النحو التالى: د. أحمد شفيق أجاد المنافسة ود. محمد مرسى فاز. وإذا كانت مباريات الملاكمة، والرياضة عموما تنتهى بانتهاء المنافسة، ويقوم الطرفان المتنافسان بتبادل التحية والمصافحة، فإن ما يجب أن تشهده الساحة السياسية المصرية حاليا هو المصالحة بين جميع الفصائل، فالوطن للجميع، وحسنا فعل الدكتور محمد مرسى فى كلمته الأولى للشعب بعد إعلان فوزه عندما قال: إنه رئيس لكل المصريين وإنه لا مكان لتصفية الحسابات أو الإقصاء لأى فصيل، فالكل مصريون متساوون فى الحقوق والواجبات. وحسنا فعلت الأحزاب والقوى السياسية المعارضة قبل المؤيدة للدكتور مرسى بمبادرتها الحكيمة بتهنئة الرئيس المنتخب، والتأكيد على احترامها لإرادة الناخبين التى ترجمتها الصناديق، وهو أمر يسعد كل مصرى، فاحترام النتائج أحد أهم عوامل البناء الديمقراطى لمصرنا الجديدة. والآن وبعد انتهاء الماراثون الانتخابى وإعلان اسم الرئيس الجديد لمصر بعد ثورة 25 يناير، بات على الجميع أن يبادر بطرح سؤال على نفسه قبل الآخرين.. وماذا بعد؟ ماذا بعد النجاح فى الدرس الأول للديمقراطية التى عشنا ننتظرها زمنا طويلا؟ ماذا عن الخطوة التالية على طريق بناء الوطن على النحو الذى يليق به وبتاريخه وحضارته؟ وكيف سنؤازر الرئيس الجديد ليؤدى عمله ويحقق أهدافنا جميعا، هل سنشمر عن سواعدنا ونعلن الاصطفاف خلفه على طريق العمل الجاد من أجل رفعة الوطن ونهضته، هل سيعكف كل منا على عمله يتقنه ويتفنن فيه لتجويده ليحقق النتائج المرجوة منه، وليسهم فى وضع لبنة فى بناء المستقبل الزاهر لمصر التى نريدها. إننى أرى أن الكرة باتت فى ملعب الشعب الذى بات مطالبا بالحفاظ على ثورته وحماية مكتسباتها من خلال العمل والجهد المخلصين، فالرئيس وحده لا يملك عصا موسى ليحول التراب ذهبا فى طرفة عين ويحقق المستحيل. إن الواجب الوطنى يحتم علينا جميعا أن نتوحد تحت علم الوطن معارضين ومؤيدين على السواء، وأن ندعم ونؤازر الرئيس الجديد، خصوصا فى بداية فترة رئاسته، نعينه على المصاعب ونرشده إلى الطريق السليم تلبية لدعوته التى أطلقها فى كلمته الأولى، وأعود لأكرر بأن الرئيس بحاجة إلى دعم وتكاتف المصريين كل المصريين من حوله، فبدونهم لن يحقق ما نصبو إليه، ونجاحه مسئوليتنا جميعا، كما أن فشله (لا قدر الله) سيكون خسارة وفشل لنا جميعا، والله نسأل لرئيسنا الجديد التوفيق والسداد. تحيات واجبة. ها هى المرحلة الانتقالية تصل إلى محطة النهاية، وها هى مصر على أبواب جمهوريتها الثانية تخطو نحو المستقبل بثقة وطموح كبيرين، غير أننا مطالبون الأن بأن نقدم التحية لكل من عمل من أجل هذا الوطن واجتياز المرحلة الانتقالية الصعبة والدقيقة فى تاريخ مصر. التحية لرجال القضاء حصن مصر ومصدر فخرها والعين التى لا تغفل من أجل إقرار العدل فيها، يتساوى أمامهم الجميع، وتحكم ضمائرهم بما يستقر فيها بعد البحث والفحص لا يخافون فى الحق لومة لائم، ولا يخشون فى أعمالهم إلا الله الواحد الأحد، فقد أثبت مجددا القضاء المصرى الشامخ برجاله عبر التاريخ أنه حصن الوطن وعنوان ضميره، بعد أن نجحت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية برئاسة المستشار فاروق سلطان، ومعه قامات كبيرة من رجالات القضاء المصرى العظام فى إدارة العملية الانتخابية بحكمة وحنكة وصبر، مترفعين عن الصغائر متحملين كل المصاعب من أجل الوصول بسفينة الانتخابات إلى بر الأمان برغم الأمواج العاتية التى كانت تهدد إبحارها، من خلال الانتقادات التى بلغت حد الاتهامات، والتى تفرض على كل من تعرض للجنة وعملها ورجالها أن يتحلى بشجاعة الفرسان ويتقدم باعتذار، لعل اعتذارهم ينزل بردا وسلاما على اللجنة، ويصلح ما أفسدته تجاوزاتهم طيلة الأشهر الماضية، لكننا وباعتبارنا مواطنين مصريين، نفخر بقضائنا ورجالاته نتوجه بالشكر لرجال القضاء ونرفع لهم القبعة تحية واحتراما وتقديرا لدورهم المهم والكبير فى إدارة عملية الانتقال الديمقراطى التى يمر بها وطننا الحبيب، مؤكدين اعتزازنا بكل القضاة الذين منحونا بعدلهم ونزاهتهم فرصة الفخر والزهو بهم أمام العالم. .. ويكتمل الشكر عندما يصل إلى الضلع الثالث من أضلاع مثلث إدارة العملية الانتخابية وتأمينها، وأقصد رجال الشرطة الذين تحملوا الكثير من الجهد من أجل القيام بمهمة التأمين للجان مع أشقائهم رجال القوات المسلحة، وكانت الانتخابات فرصة لقيام الشرطة بدورها الوطنى واستعادة ثقة المواطنين وهى الثقة التى يجب علينا جميعا أن نسهم فى تعزيزها خلال الفترة المقبلة، لنبدأ عهدا جديدا فى العلاقة بين الشعب ورجال الشرطة يقوم على الاحترام المتبادل واحترام الطرفين للقانون الذى بتطبيقه يسود العدل وتنهض الأمم. وأخيراً .. فإن الشكر والعرفان واجبان للدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء ووزراءه الذين تحملوا المسئولية فى توقيت حرج وصعب وتصدوا للمهمة بشجاعة ووطنية، مقدرين الظرف السياسى الخطير الذى كان الوطن يمر به، فبذلوا أقصى جهد ممكن وفق ما أتيح لهم من فرصة وإمكانات نجحوا وأخفقوا لكنهم أبدا لم يقصروا أو يدخروا جهدا وهاهم يغادرون موقع المسئولية وينضمون إلى صفوف المواطنين .. فوجبت لهم التحية. أول تحية يجب أن تكون للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى وفى بما وعد، بتسليم السلطة للرئيس المنتخب من الشعب بإرادة حرة وعبر انتخابات أشاد القاصى والدانى بنزاهتها وشفافيتها، فوجب علينا جميعا أن نرفع القبعة احتراما وتقديرا للمؤسسة الوطنية العسكرية الشامخة بعراقتها ورجالاتها البواسل الذين تحملوا المسئولية فى أصعب الأوقات، فكانوا نعم الرجال ونعم الأمناء على الوطن، تحملوا الكثير من المعاناة والأعباء الجسام وواصلوا الليل بالنهار من أجل الحفاظ على مصر الموحدة، وتوزعت جهودهم بين تأمين الحدود واستتاب الأمن الداخلى، وصمدوا فى وجه المؤامرات الخارجية والانتقادات الداخلية التى تجاوزت حدود الاحتمال، لكن الأيام أثبتت أن جيش مصر الذى وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير أجناد الأرض، وفىّ لوطنه وأمته، صادق فى وعوده حريص على شعبه، أدى مهمته بنجاح برغم كل ما تعرض له من انتقادات تعامل معها بصبر وحكمة. واليوم يستحق جيشنا العظيم ومجلسه الأعلى الأمين أن نقول لهم: جزاكم الله عن مصر خيرا، وأبقاكم لها ذخرا ودمتم لها درعا وسيفا.