عاصم الشيدى عاشت سلطنة عمان على المستوى الشعبى أصعب أربعة أشهر لها منذ سبعينيات القرن الماضى، عندما غادر السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان "74 عاما" العاصمة العمانيةمسقط مطلع يوليو الماضى متجها إلى مدينة ميونيخ الألمانية لتلقى العلاج.. بدا الأمر أشبه بالمفاجأة للشعب العمانى الذى رأى فى سلطانه شخصا صلبا على المستوى الشخصى كما هو على المستوى السياسى.. ولأول منذ عام 1970 العام الذى تولى فيه قابوس الحكم يعلن ديوان البلاط السلطانى أن السلطان يغادر إلى ألمانيا لقضاء الإجازة السنوية وإجراء فحوصات طبية. لم تنشر صور رسمية لمغادرته كما جرت العادة، إلا أن الأمر كاد أن يسير بشكل طبيعى لولا أن قناة تليفزيونية لبنانية "الجديد" بثت تقريرا، قالت فيه إن قابوس يتلقى العلاج فى ألمانيا من سرطان القولون وإن حالته بدت ميئوسا منها. ورغم أن ديوان البلاط السلطانى طمأن فى اليوم التالى المواطنين على صحة السلطان، وأكد أنه يمارس عمله من منزله الكائن فى قرية جارمش فى ميونيخ، فإن حالة من الانكسار بدت تجتاح الشارع العمانى، خصوصا أن ذكرى الثالث والعشرين من يوليو "تولى السلطان الحكم يوم 23 يوليو عام 1970" مرت دون أن يكون فى البلاد أو أن يظهر فى أى استقبال رسمى، ومرت ذكرى عيد الفطر المبارك، وبعده عيد الأضحى. الديوان أكتفى ببيان ينقل فيه تحيات السلطان لشعبه ويطمئنهم أنه بصحة جيدة ويواصل برنامجه العلاجي. ووصلت تلك الحالة من الانكسار، وفى الحقيقة الخوف والترقب، حدها مع اقتراب العيد الوطنى لسلطنة عمان والذى يوافق يوم 18 نوفمبر من كل عام. وبدا العمانيون حينها مستعدين لتصديق أى خبر أو أى شائعة، ومعه تسربت أخبار أن عودة السلطان باتت قريبة وأنه سيشهد العرض العسكرى السنوى فى يوم العيد الوطنى. لكن ظهورا مفاجئا للسلطان عبر شاشة التليفزيون العمانى وهو يلقى كلمة لشعبه بمناسبة العيد الوطنى 44 أعادت الأمور إلى نصابها كثيرا، رغم أن السلطان أكد أنه لن يكون موجودا خلال العيد الوطنى يشارك المواطنين أفراحهم واحتفالاتهم. وظهر أن السلطان بصحة جيدة، ورغم خفوت بسيط فى الصوت فإن نبرة خطابه القوية لم تتغير كثيرا عن السابق، كما كان واضحا أن نظره جيد، وكان يقرأ من أوراق أمامه دون أن يحتاج إلى تقريبها منه. وأعقب الخطاب باستقبال السيد فهد بن محمود، نائب رئيس مجلس الوزراء لشئون مجلس الوزراء والسيد شهاب بن طارق، مستشار السلطان وعميد الأسرة الحاكمة. لم يستمر الخطاب أكثر من أربع دقائق، ودقيقة مصورة للمقابلة لكنها كانت كفيلة بجعل كل العمانيين يخرجون إلى الشوارع محتفلين برؤية سلطانهم وهو بموفور الصحة والعافية. من مجمل هذا المشهد يحتاج المتابع أن يقف أمام نقطتين جوهريتين فى المشهد العمانى الحالى ليفهم بعض تفاصيل المستقبل. النقطة الأولى هى آلية انتقال السلطة بعد السلطان قابوس فى ظل عدم وجود ولى للعهد. أما النقطة الثانية فتتعلق بسر العلاقة بين السلطان وشعبه، وطرحها هنا مرتبط بشكل كبير بالنقطة الأولى. بعد أيام من نشر قناة الجديد اللبنانية لخبر إصابة السلطان قابوس بسرطان القولون، كتب الكثير من صحف العالم تقارير عن عمان ركزت فيها على تقليد عدم وجود ولى للعهد فى دولة نظام حكمها ملكى. ينص النظام الأساسى العمانى "يقوم مقام الدستور" على أن يختار مجلس العائلة من بين أفراده سلطانا جديدا خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان، على أن تنطبق عليه الشروط المنصوص عليها، وفى حالة عدم قدرته على اختيار السلطان خلال المدة المحددة يثبت مجلس الدفاع بعد اليوم الثالث الشخص الوارد اسمه فى الوصية الموجودة فى مكان بارز ومعروف فى القصر، على أن يحضر فتح الوصية رؤساء البرلمان "مجلس الدولة المعين والشورى المنتخب" ورئيس المحكمة العليا وأقدم نائبين له. ومنذ تأسست دولة البوسعيد فى القرن الثامن عشر لم يحدث أن سمى أى سلطان منهم وليا للعهد. وفى ظل عدم وجود أبناء "لا ذكور ولا إناث" للسلطان قابوس بدا الأمر مخوفا للبعض. ولكن السلطان والمقربين منه مازالوا يطمئنون أن الأمور ستسير بشكل طبيعى وسلس. والحقيقة أن نظام الحكم فى عُمان، رغم ملكيته، فإنه يختلف عن بقية دول الخليج.. فالأسرة الحاكمة لا تملك فى الحكم شيئا فى ظل تحول الدولة إلى دولة مؤسسات وعدم إعطاء امتيازات تنفيذية للأسرة الحاكمة. ولا يوجد من أفراد الأسرة الحاكمة الذين تنطبق عليهم شروط شغل منصب السلطان فى مجلس الوزراء إلا شخصان اثنان فقط.. هما السيد فهد بن محمود، نائب رئيس مجلس الوزراء والثانى السيد هيثم بن طارق ابن عم السلطان ويشغل منصب وزير التراث والثقافة. أما بقية الوزراء فيمثلون مختلف طوائف المجتمع العمانى.. ولا يشغل أى منهم أى منصب رفيع فى المؤسسات الأمنية والعسكرية، بل إن الكثير من أفراد هذه الأسرة والقريبة جدا من السلطان يشغلون وظائف عادية جدا فى القطاع الحكومى. ومن كثرة حب العمانيين للسلطان قابوس وثقتهم فى اختياره فإنهم يتمنون أن يصل الأمر إلى تثبيت الشخص الوارد اسمه فى الوصية. ورغم أن هذا الأمر مطروح فى عمان على نطاق ضيق فإن العمانيين فى المجمل لا يشعرون بقلق حقيقى من آلية انتقال السلطة، كما تصور ذلك الكثير من التقارير الصحفية العالمية. ولا يريدون اليوم أن تخدش اطمئنانهم برؤية السلطان وهو متوج بالصحة والعافية. والحق أن ما يحدث طبيعى جدا.. فقبل عام 1970 كان العمانيون يحلمون بمن يخلصهم من حالة الرجعية التى وصلت إليها البلاد التى شكلت فى مرحلة سابقة أعظم امبراطورية فى المنطقة امتدت من منطقة الخليج العربى إلى مساحات شاسعة فى الشرق الإفريقى، حتى إن العاصمة انتقلت من مسقط إلى زنجبار. وجاء السلطان قابوس وحولّ عمان من دولة متخلفة إلى دولة عصرية رغم أنها الأقل خليجيا فى عائدات النفط والأصعب تضاريس والأغلى فى التنمية. ونأى السلطان قابوس ببلاده عن كل الصراعات المسلحة والمؤامرات التى تحيط بمنطقة الشرق الأوسط وينغمس فيها الكثيرون. وهو ما أعطى عمان مصداقية استثنائية عندما تتبنى قضايا لحل الخلافات فى المنطقة وآخرها ربما جمعها الإيرانيون والغرب على طاولة الحوار بعد خمس سنوات من المباحثات السرية. لا يأبه العمانيون كثيرا بمن سيخلف سلطانهم قابوس، بل إنهم لا يريدون فى هذا التوقيت بالذات طرح هذا الأمر، بل تراهم يترقبون خبرا عن موعد عودته من ألمانيا ليواصلوا معه مسيرة البناء حتى النفس الأخير . *كاتب وصحفى عمانى