أحمد يوسف لا أميل كثيرا للتصنيفات الشائعة التى يطلقها بعض الفنانين على أنفسهم، ويسير بعض النقاد فى ركابهم، لكنك إن تأملت هذا المصطلح أو ذاك لوجدته غائما، ومن هذه المصطلحات "الواقعية السحرية"، التى تبدو براقة بالنسبة للكثيرين، لكن بريقها يخبو إذا اقتربت منها، فما الفرق الدقيق والفاصل بينها وبين الفانتازيا مثلا، أو التعبيرية، أو السيريالية؟ بل ما الفرق بينها وبين أى واقعية، ما دام أى عمل فنى يتحدث عن واقع ما، قد يكون واقعا نفسيا يشعر به صاحبه وحده، وقد يكون حلما يختلط فيه الواقع بالخيال؟ لكن ما يصنع هذا الفرق وحده هو أن يحاول صانع العمل الفنى تقديم "تفسير" ما لهذا الخلط بين العالمين، وهو الأمر الذى تتسم به على نحو خاص أفلام هوليوود التى تعودنا عليها، فقد تفسر الرحلة عبر الزمن من خلال الخيال العلمى، ويبرر التشوش بين الحقيقة والخيال بالاضطراب النفسى، لكن هناك أعمالا أكثر أصالة تصنع ذلك المزيج دون أن تشغل نفسها إلا بمنطق اتساق العمل الفنى وحده، وليس هناك لدينا مثال أكثر سطوعا من "الف ليلة وليلة". هذا هو ما فعله المخرج الأمريكى «وودى ألين» فى فيلمه "منتصف الليل فى باريس"، وهو واحد من أفضل أفلامه طوال حياته الفنية، وهو كعادة كل أعماله تحمل سؤالا وجوديا قلقا ما، متجسدا هذه المرة فى شخصية بطله جيل بيندر (أوين ويلسون)، كاتب السيناريو لأفلام تجارية فى هوليوود، لكنه يطمح إلى كتابة رواية فيها الكثير من ذاته، عن بائع فى محل لبيع الأشياء القديمة، وهو أيضا مثل كل أبطال وودى ألين يحاول أن يتحقق فى عالم يحتفى بكل ما هو عادى ومبتذل، ويذكرك على نحو خاص ببطلة فيلم "وردة القاهرة القرمزية"، ربة المنزل التى أنهكتها الحياة المبتذلة، فتجد المأوى فى تجسيد أحد نجوم الأفلام المشهورين لها، وتعيش ما يشبه الحلم أو الفيلم وقد ابتلعتها شاشة العرض. المأوى هنا بالنسبة لبيندر هو العودة إلى الماضى، فهو يزور باريس مع خطيبته الثرية آينز (راشيل ماكادامز) فى استعدادهما للزواج، لكن بينما تغرق هى فى تفاهات الشراء ورؤية السائح، ولا يعجبها سوى آراء صديق مثقف سطحى (مايكل شين) بينما تتجاهل رؤى جيل الأكثر الأصالة، يجد بطلنا نفسه وحيدا مع تخيلاته، يمضى فى شوارع باريس فى منتصف الليل متأملا، وفجأة تظهر له سيارة من طراز قديم، يدعوه ركابها لمصاحبتهم، فيما يبدو للوهلة الأولى أنهم ذاهبون لحفلة تنكرية. لكنه يجد السيارة قد انتقلت به إلى العشرينيات، فى إحدى حانات باريس التى كانت تضم آنذاك فنانين عديدين من مختلف البلدان والمدارس الفنية، حيث يقابل سكوت فيتزجيرالد وزوجته، وإيرنست هيمنجواى، وينظر إليهم وينصت لهم فى إعجاب بالغ، فتلك الفترة هى "العصر الذهبى" بالنسبة لجيل، الذى كان يتمنى أن يعيش فيه، لكن المفارقة أن وودى ألين يجعل هذه الشخصيات (الأسطورية فى نظرنا ونظر البطل) تبدو عادية تماما، تتنازعها الأهواء والشهوة والأنانية والحسد، بل الادعاء والتفاهة أحيانا، لكن كل ذلك لا يبدو واضحا لعينى جيل، وقد أعماهما الانبهار. عندما يترك جيل الحانة ثم يفكر فى العودة إليها لأنه تذكر شيئا ما، يكتشف أن مكانها محلا حديثا لبيع الأدوات المنزلية، لكنه سوف يحاول فى الليلة التالية، ومرة أخرى تأتى سيارة قديمة لتغوص به أكثر فى باريس العشرينيات، حيث يقابل جيرترود ستاين، التى توافق على أن تقرأ مخطوطة روايته، كما يرى بيكاسو وعشيقته أدريانا (ماريون كوتيار). ومن خلال أدريانا (وهى شخصية ليست حقيقية وإن كان اسمها يأتى من إحدى لوحات بيكاسو) يشعر بحنين جارف نحو هذا الماضى، والحقيقة أن كوتيار تجسد ذلك الحلم على نحو مذهل، لتمتعها بحيوية وتلقائية مذهلتين، بدتا واضحتين فى تجسيدها من قبل لشخصية إديت بياف فى فيلم "الحياة الوردية". يظل جيل فى رحلته الليلة جيئة وذهابا بين الحاضر والماضى، ولا يشغل وودى ألين نفسه بتفسير ذلك تفسيرا واقعيا، لكن دون أن يفقد فيلمه تماسك بنائه ووضوحه (لعل هذا يمثل درسا لبعض مخرجينا الذين يتركون ثغرات غامضة فى أفلامهم، بذريعة الخلط بين عالمين، وإن كان السبب الحقيقى هو عجزهم عن تحقيق وحدة ووضوح هذا البناء). وعندما يقابل جيل المخرج السيريالى لوى بونويل مع سلفادور دالى، ويتحدث له عن حبه العميق لامرأة من زمن آخر، لا يجد بونويل فى ذلك ما هو غريب، فتلك هى السيريالية بعينها!! ولأن هناك بالفعل مشاعر دافئة تنمو بين جيل وأدريانا، فإنه يحاول إقناع نفسه بأن يعيش فى الماضى، فى عشرينيات القرن العشرين التى يعتبرها "عصره الذهبى"، لكنها تصارحه أن العصر الذهبى بالنسبة لها هو أواخر القرن التاسع عشر، وتأخذه إلى ملهى المولان روج، حيث تقرر هى البقاء فى هذا العصر، مع لوتريك وجوجان وديجا، الذين يجدون بدورهم أن عصرهم الذهبى هو عصر النهضة!! هنا يكتشف جيل أن كل جيل يبحث فى الماضى عن عصر ذهبى، لسبب وجودى يستولى تماما على عالم أفلام وودى ألين، هو أن الحاضر مثير للضجر، وأن الحياة لا ترضينا. قد تجد أشياء مشتركة عديدة بين مشاعرك وفيلم "منتصف الليل فى باريس"، لكنك ربما قد تشعر أيضا أنه ينتمى إلى عالم مختلف تماما، عالم الشبع إلى حد التخمة، بينما نتضور نحن جوعا على مستويات عديدة. لكن الأمر فى الحالتين ينتهى إلى البحث فى ركام الماضى، الذى نتحدث عنه كأنه الجنة المفقودة، لكن الحقيقة أنه لم يكن تلك الجنة، وإنما الحاضر هو الذى يشعرنا بما يشبه لهيب الجحيم!!