بغداد طيبة الخزرجى إنه ليس مواطنا عاديا إنه أسطورة، إنه ليس مواطنا كما تفهم الكلمة عندما تطرق مسامعك لأول وهلة بل مرشحا لتحطيم الرقم القياسى فى تحمل الأزمات على جميع الأصعدة، إنه ليس تركيبة بسيطة تتسم بطيبة القلب كما نراه بل هو خلطة من الصبر الجميل والتكيف اللامتناهى مع صعوبات الحياة التى يعيشها، إنه رياضى على مستوى العالم فى عبور الحواجز والعقبات التى تصنعها له ظروف حياته، إنه ببساطة المواطن العراقي. أشرقت الشمس؛ بل وأصبحت تعلو فوق البيوت، وبدأ لهيبها يشمر عن ساعديه.. الطيور تزقزق كعادتها وتبحث عما تأكله مع ساعات النهار الأولى، الأجواء هادئة.. فقد انتهى ليل القصف الطويل وعادت الطائرات إلى قواعدها سالمة مخلفة وراءها أحياء مهدمة، وعوائل تصارع الموت تحت حطام منازلها. إنها الساعة السادسة صباحا حيث يبدأ نهار المواطن الطويل، لم يستيقظ على صوت المنبه.. بل استيقظ من شدة الحر؛ فانقطاع الكهرباء ومعه ارتفاع حرارة الجو جعلا من النوم مهمة مستحيلة، وكذلك ازدحام الطرق ومعها السيطرات (نقاط التفتيش)، حيث لم يعد ينجح معها الخروج من البيت قبل نصف ساعة من موعد العمل أو حتى قبل ساعة، وإن فعلها فسيكون الخصم جزاؤه (خصم من المرتب)، لأن أغلب دوائر الدولة أصبحت تعمل بنظام البطاقة الذكية التى تكشف مواعيد الحضور والانصراف. يبدأ العراقى يومه الحافل، ويغير ملابسه منتقيا أكثرها ملائمة لمقاومة الشمس، وينتعل الحذاء الأكثر راحة أو الحذاء الرياضى، ليتمكن من عبور الازدحامات والاختناقات المرورية.. أما الرأس فلا يكتفى بقبعة فحسب؛ بل يصاحبها منديل ويستمر بنقعه بالماء البارد، إنها «العدّة» كى يخرج المواطن ليواجه الشارع. وما إن يخرج المواطن العراقى من المنزل، ويستقل أول حافلة حتى يصطدم بأول ازدحام (اختناق سير) عند أول سيطرة «نقطة تفتيش»، حيث تمر السيارات واحدة تلو الأخرى ببطء شديد، ومع خروج الجميع صباحا للعمل وتعدد السيارات الخاصة والأجرة والحافلات تزدحم، فيصبح المشى على الأقدام أسرع من الجلوس فى الحافلة وانتظار نهاية الازدحام، وهنا يترجل من الحافلة ويكمل طريقه إلى العمل مشيا على الأقدام حتى نهاية الازدحام (مكان السيطرة) ويركب هناك مرة أخرى، وما إن تمشى الحافلة بضعة كيلو مترات أخرى حتى تدخل فى ازدحام آخر ويبدأ الركاب يتساءلون ماذا هناك؟ فهم قد حفظوا أماكن كل السيطرات (نقاط التفتيش) وليست هذه إحداها وتبدأ التساؤلات تنتقل من سائق الحافلة التى يركبها إلى الآخر حتى يصل الخبر من نهاية الازدحام (الاختناق) أن الطريق مقطوع والسبب انفجار قد حدث، وجاءت القوات الأمنية بعد فوات الأوان طبعا، والإجراء الأول والوحيد الذى اتخذته هو قطع الطريق وصنع هذا الازدحام وما إن يسمع الركاب الخبر حتى يتركوا الحافلة ويكملوا طريقهم مشيا وهكذا يصل المواطن إلى عمله لكن طبعا مع تأخير كل يوم. معاناة الذهاب إلى العمل قد تكون أقل بكثير من معاناة العودة منه، بل ربما تكون رحلة الذهاب أيسر بكثير مقارنة برحلة العودة، فعندما تمر ساعات العمل وضجة المعاملات وطوابير المواطنين، وتأتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، نكون فى أوج ساعات الظهيرة الحارقة، ويخرج المواطن العراقى عائدا إلى المنزل، ليواجه نفس الصعوبات التى واجهها صباحا، لكن هذه المرة مضاف إليها ما يحمله من أكياس الاحتياجات التى اشتراها فى طريق عودته للمنزل خوفا من غلاء أسعارها إذا اشتراها من أسواق قريبة لمنزله، فى ظل تفاوت أسعار السلع من مكان لآخر، وما إن يستقل المواطن الحافلة ويدفع الأجرة ويرتب الأكياس بالقرب من كرسيه حتى يبدأ بالتفكير فى عائلته؛ زوجته وأولاده وكيف ضجروا من البقاء فى المنزل لفترة طويلة، حيث لم يخرجوا منذ زمن فى نزهة أو ليروّحوا عن أنفسهم فى مكان ما، وبطبيعة الحال قلبه وضميره يلومانه على ذلك، فيبدأ التفكير فى البحث عن وسيلة لتحقيق رغبتهم فى التنزه، وهنا تأتى المعضلة: إلى أين سيأخذهم؟ فالمتنزهات عرضة للتفجيرات، بل هى هدف واضح لعمليات التفجير التى لا ترحم صغيرا ولا كبيرا، شابا أو فتاة، سيدة أو رجل، وهناك حوادث عديدة حصلت راح ضحيتها المئات، أضف إلى ذلك، أن ما يعانيه المواطنون من ازدحام الطرق وتعطل بسبب السيطرات (نقاط التفتيش) وتعاملهم الاستفزازى. البعض من المواطنين يجد فى «المولات» حلا أسهل للتنزه، خصوصا مع انتشار المولات التى تم افتتاحها أخيرا فى العراق، إلا أن الأزمة هنا أكبر وأكثر تعقيدا، نظرا لأن التنزه فى المول يحتاج إلى مبلغ من المال، لشراء ما قد تطلبه الزوجة أو الأبناء، من ملابس أو غيرها من الأشياء، وهنا يجد المواطن نفسه محصورا بسبب ضيق ذات البد، حيث إن راتبه يكفى فقط ليلبى احتياجات أسرته من مأكل وملبس ودراسة.. ويستمر العراقى فى التفكير حتى يصل إلى أنهم لو جلسوا معا فى المنزل وأحضر لهم طعام العشاء ويجتمعون يتبادلون الحديث والمزاح، فإن ذلك سيكون أفضل بكثير من الخروج وتوقع ما لا يحمد عقباه. يستعيد المواطن وعيه وينتبه إلى أن الحافلة قد أوصلته إلى قرب منزله، فيحمل أغراضه ويترجل فى طريقه إلى المنزل، حاملا ما استطاع أن يقتنصه من احتياجات، ويسير حاملا إياها تحت الشمس الحارقة، ليتنفس الصعداء عند الوصول إلى المنزل، وتتنفس أسرته الصعداء بعدما عاد إليهم بخير، وسط التفجيرات اليومية التى تحصد العشرات، فتجعل الأسرة تحبس أنفاسها يوميا على رب الأسرة عند خروجه للعمل، خوفا من أن يكون هدفا لتفجير أعمى، فيضيع كما ضاع الآلاف بلا ثمن، وتتشرد الأسرة. فى المنزل تبدأ رحلة معاناة جديدة، حيث إن العودة تكون عادة قرب الساعة الرابعة عصرا، أى أنه لم يتبقَ سوى ساعة واحدة فقط وينقطع التيار الكهربائى الذى يأتى من خلال الاشتراك فى مولدات الكهرباء، حيث إن نظام صاحب المولد هو توفير الكهرباء لتعدد محدود من ساعات اليوم، يهرع العراقى إلى الحمام مستعجلا ليتجنب انقطاع الماء فور انقطاع الكهرباء، ويأخذ قسطا من الراحة بعد تناول الغداء ليبدأ القسم الثانى من يومه. تبدأ ساعات العصر بشرب الشاى وهى عادة لا يستطيع المواطن العراقى الاستغناء عنها وبعدها يبدأ بمباشرة بعض المهام المتعلقة باحتياجات المنزل والعائلة ودوامة الحياة، فإما إلى صاحب المولد ليدفع مستحقات الشهر، أو لمعاتبته «طبعا بدون نتيجة» على عدم تشغيله لساعات أو لعدم الإصلاح السريع لأعطاله المتكررة دوما، أو ليذهب إلى محل توزيع الحصة التموينية التى باتت فى تناقص دائم وغير متوافرة كل شهر، فأصبح المواطن يشترى كل شيء تقريبا، ويراجع محل الحصة التموينية كما لو أنها دائرة رسمية وله معاملة فيها، كلما وجد وقتا ذهب ليتفقد هل وصلت المواد التموينية أم لا، وهناك كثيرون ممن يستغلون فترة ما بعد الظهيرة فى زيارة أقاربهم ممن فقدوا الزوج أو الابن الذى يعيلهم فى انفجار أو اعتقل ولا تعرف أسرته مكانه، فيتفقد أبناءهم ويقضى لهم مصالحهم إن استطاع، ويقدم لهم ما يستطيع من عون بقدر استطاعته. وإذا كانت هذه هى الحال فى شهور الصيف الحارقة فى العراق، فإن الوضع يختلف قليلا فى الشتاء القارص، حيث يقضى المواطن وقتا طويلا فى الشتاء فى طوابير محطات التزود بالوقود، لساعات وساعات من أجل الحصول على وقود المدافئ. ووسط دوامة الحياة ومعاناتها، يتبادر للمواطن العراقى تساؤل يجعله يقف حائرا أمامه، لغز بلا حل، وهو: كيف انتهت به الحال إلى هذا الوضع برغم أن العالم كله يعرف أن العراق بلد نفطى غني، لديه الكثيرمن الموارد والإمكانات؟ وكان قديما صاحب الفضل على الآخرين ومصدر الهبات والعطايا، بلد بات قبلة للباحثين عن العمل والثراء من العمال العرب وغيرهم. يقف المواطن مغلوبا على أمره، وبلا إجابة للسؤال الذى يجعله يشعر بالعجز، يتذكر آلامه ومعاناته اليومية، ويقف متعبا مفتقدا إلى أبسط مستلزمات وسبل الراحة، محروما من أى وسيلة للترويح عن النفس أو الترفيه له ولأسرته، حياته معرقلة من أبسط تفاصيلها حتى أعقدها، فكل شيء مستحيل أو غال أو صعب المنال، وإن استطاع أن يشترى احتياجاته، فإن ذلك بشق الأنفس بسبب ضيق ذات اليد، ويعيش وسط خدمات متردية، ويتحايل عليها بقدر استطاعته، ولكنه يعجز عن توفير الأمن له ولأسرته فى ظل أوضاع أمنية متردية، ودخل محدود، ولكنه يحمد الخالق بالاستمرار على قيد الحياة، ويواصل حياته راضيا، عندما يرى طوابير من يقضون أياما متتالية يقفون أمام وزارة العمل والشئون الاجتماعية ليحصلوا على مرتبات الأرامل الذين فقدوا رب الأسرة.