نيرمين قطب رغم النص القاطع للدستور المصرى فى مادته الثامنة عشرة على «حق المواطن فى الرعاية الصحية المتكاملة»، فإن الواقع الصحى فى مصر «كارثى» على مختلف الأًعدة، ويعانى قصورا فادحا، وخللا جسيما فى جميع مكوناته، سواء فى مقدم الخدمة ومؤديها من أطباء وصيادلة وتمريض، أم فى المنظومة المؤسسية من مستشفيات وجهات رعاية أو حتى فيما يخص الأدوية والمنظومة الوقائية وغيرها. والكارثة الأكبر هى تفاقم هذا التدهور عاما بعد آخر، حتى أصبح مشكلة مزمنة فشلت الحكومات المتعاقبة فى حلها، وحينما يكون لدينا عالما مصريا يشهد له العالم كله بالعبقرية والنجاح غير المسبوقين فى مجال الرعاية الصحية، هو الأستاذ الدكتور سمير بانوب، مستشار التخطيط والإدارة الصحية بالولايات المتحدةالأمريكية، ومؤسس نظام التأمين الصحى الشامل هناك، والذى حقق نجاحا فائقا أبهر العالم. هنا يجب اللجوء إليه ليقدم لنا روشتة لإنقاذ المنظومة الصحية فى مصر عبر هذا الحوار. موازنة قطاع الصحة هى الحجة الدائمة التى يسوقها أى مسئول فهل ما نص عليه الدستور لأول مرة بتخصيص 3 % من الناتج القومى للصحة كافٍ للنهوض بهذا القطاع؟ من الغريب أن يشير دستور إلى نسب مئوية للإنفاق على الصحة لأنها تتغير مع الزمن، كما أن الحكومة لا تنفق على الصحة من أموالها ولكن من مصادر، هى أموال المواطن الدافع للضرائب، أو كجزء من الأجر يدفعه صاحب العمل، وليس تفضلا، والدولة توفر مصادر الإنفاق طبقا لنظم العلاج وبالذات تغطية التأمين الصحى، فالحكومة تلتزم بالإنفاق على الصحة العامة والوقائية، أما الخدمات العلاجية فترتبط بنظام التأمين الصحى الذى يطبق، فإن كان تأمينا اجتماعيا يغطى من الخزانة فإنها تتكفل بالقدر الأكبر، ويصل إلى 80 % أو أكثر، أما إذا كان التأمين من خلال العمل، فإن الحكومة تكفل موظفيها وأسرهم كأى صاحب عمل، وتدعم غير القادرين الفقراء أو من ليس لهم جهة عمل كالمتقاعدين أو العاطلين أو المعاقين وغيرهم، وبذلك تصل نسبتها من تكلفة الرعاية الطبية إلى 25-30 %، ولأن نظام التأمين الشامل لم يحدد بعد فى مصر، فإن نصيب الحكومة من الإنفاق غير واضح حاليا، ويمكن أن يتغير على مدار الزمن، أما تحديده ب 3 % من الدخل القومى، فهو غريب أيضا، لأن الحكومة لا تتحكم فى الدخل القومي، لكن فى الموازنة العامة، أما بالنسبة المئوية المحددة فهى متواضعة جدا إذا ما قورنت بالدول الغربية، حيث تصل النسبة فى أمريكا إلى %18، ومتوسط الإنفاق فى أوروبا 10 % من الدخل القومى، ومع ذلك فهى نسبة واعدة فى مصر، حيث إن الإنفاق الحالى يقل عن 2 % من الدخول القومى، يدفع المواطن من جيبه الخاص ثلثيه تقريبا ولا تسهم الحكومة بأكثر من الثلث الذى يشمل جميع برامجها وخدمات وزارتها، الخلاصة أن هذا الإلزام واعد على المدى القصير إذا تغاضينا عن المنطوق الفنى واعتبرنا أن ذلك يعنى توفير الحكومة ما يعادل 3 % على الأقل للإنفاق على الصحة ودون حد أقصى. ربما يعقد الكثير من المواطنين الآمال على حدوث تحسن فورى وحقيقى فى الخدمات الطبية إذا ارتفعت مخصصات قطاع الصحة، فهل من الممكن حدوث تحسن فورى أو على الأقل خلال فترة زمنية قصيرة بمجرد توفير مبالغ مالية أكبر لقطاع الصحة؟ زيادة التمويل مع بقاء التنظيم الحالى وقصوره الشديد لن يغير الواقع كثيرا، بل يعتبر فى هذه الحالة إهدارا لموارد تحتاجها الدولة فى ظل الأزمة المالية، ولدينا مثل واضح هو إنشاء نظام تنفرد به مصر وهو العلاج على نفقة الدولة، كما لو كان التأمين الصحى أو المستشفيات الحكومية هى على نفقة الأممالمتحدة مثلا - هذا النظام بدأ فى مصر كوضع مؤقت إلى حين تعميم التأمين الصحى، وقد ارتفعت مخصصاته من 100 مليون جنيه فى السنة الأولى لتطبيقه، ووصل إلى 3 مليارات جنيه عام 2012، وهو يعالج نحو مليون مواطن سنويا، وفى نفس الوقت فإن ميزانية علاج الخاضعين للتأمين الصحى وهم يشكلون نحو 54 مليون مواطن، أى 60 % من الشعب المصرى بميزانية نحو 4 مليارات جنيه، لقد آن الأوان للقضاء على هذه التناقضات والعجائب. إذا كانت المخصصات المالية وحدها لا تكفى فما الجوانب الأخرى التى يجب أن تعمل الدولة على تطويرها وتنميتها أيضا؟ الإصلاح يحتاج إلى تغييرات جذرية فى تنظيم وهيكلة القطاع الصحى بمكونات، ويشمل ذلك تقوية تعليم وتدريب قوة العمل الصحية وتمويل الخدمات والمكافأة المالية العادلة لمقدمى الخدمة حتى لا تدفعهم، إلى التوجه وتوجيه المواطن إلى القطاع الخاص مع رعادة تنظيم هذا القطاع، ليكون مكملا للقطاع الحكومى فى تقديم الخدمة الموحدة مقبولة الجودة، وكل ذلك لن يتم بين يوم وليلة ويحتاج لتخطيط ذى كفاءة وتنفيذ دقيق على مدار سنوات طويلة. قطاع الصحة لا يتمثل فى وزارة الصحة فقط، بل يتضمن وزارات وجهات عديدة أخرى تحتاج إلى الاهتمام والتمثيل فى القضايا الصحية، فهل يمكن أن يحدث هذا التنسيق بينها؟ بالطبع القطاع الصحى ليس مجرد مستشفيات أو علاج أمراض فقط، بل يقع فى وزارات أساسية ووزارات داعمة، وذلك علاوة على القطاع الخاص، فالوزارات الأساسية أهمها وزارة الصحة ودورها الأساسى هو تنسيق السياسات والخدمات الصحية وتنظيمها من ناحية مراقبة الجودة ومزاولة المهنة، وأهم خدمات الوزارة هى تقديم وتعزيز خدمات الصحة العامة وتشمل رفع الوعى الصحى ومنع ومكافحة الأمراض المعدية والمزمنة ومراقبة الأغذية والأدوية، وأقل أدوارها هو أن تكون المقدم الأساسى للخدمة العلاجية فى العيادات والمستشفيات، لأن وزارة الصحة لو انشغلت فى هذا الدور، فإن ذلك سوف يتم على حساب دور الوزارة التخطيطى والرقابى والوقائي. أما الوزارة الثانية، فهى وزارة التعليم العالى التى تعلم وتدرب قوة العمل الصحية من أطباء وصيادلة وأطباء أسنان، وتمريض وإداريين وفنيين وغيرهم، علاوة على البحوث فى العلوم الطبية، أما وزارة الضمان الاجتماعى فهى الأنسب لإدارة التأمين الصحى ضمن حزمة التأمين الاجتماعى، وهى تلعب هذا الدور فى دول كثيرة حيث تدير صناديق التأمين الصحى وتتعاقد مع وحدات ومستشفيات القطاع الحكومى والخاص، كما أن وزارتى البيئة والموارد المائية لهما دور أساسى فى الصحة، ويضم القطاع الصحى أيضاً العيادات والمستشفيات الخاصة، ويدعم القطاع وزارات التخطيط والمالية والتنمية الإدارية، والمشكلة الأولى فى مصر أن مكونات القطاع الصحى المذكورة تعمل كجزر منفصلة بأقل ترابط أو تنسيق، مما ينتج عنه حدوث ازدواجية أو تضارب أو فجوات، وأصبحت وزارة الصحة هى المالك والمدير الرئيسى للمستشفيات والعيادات وكذا يتبعها التأمين الصحى وإنتاج الأدوية، كما تشرف على معاهد تعليمية تمنح درجات علمية تصل إلى البكالوريوس فى التمريض والعلوم الصحية والزمالة للأطباء جنباً إلى جنب مع وزارة التعليم العالى، وهناك تناقضات كثيرة لا توجد إلا فى مصر وقليل من الدول النامية. ما القطاعات الطبية والصحية التى ترى أنها الأولى بالتطوير خصوصاً تلك التى تقع تحت مسئولية وزارة الصحة ليشعر المواطن بأى تحسن؟ التطوير والإصلاح يبدأ بإنشاء المجلس الأعلى للصحة يتبع رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، ويكون منفصلاً تماماً عن الوزارات ويحكمه ممثلو الشعب بصفة أساسية من مجلس النواب ومجالس المحافظات والنقابات العامة، ويضم ممثلين عن الوزارات الأساسية والداعمة والقطاع الخاص والنقابات المهنية، حيث تلتزم كل مكونات القطاع بسياسات وخطط موحدة ومنسقة على أن يتبع هذا المجلس ثلاث هيئات على الأقل، إحداها للأدوية والأغذية، وثانيها لمراقبة الجودة والاعتماد بالقطاعين العام والخاص، والثالثة لتخطيط وتعليم قوة العمل الصحية، وذلك بالطبع يختلف كثيراً عن الوضع الحالى الذى ترك سلطة القرار واختيار السياسات الصحية لكبار الأطباء الذين شغلوا دائماً قيادة وزارة الصحة والجامعات والنقابات وحتى لجان الصحة بالمجالس النيابية والقطاع الخاص. ما نراه من اعتصام وإضرابات جاء نتيجة وعود القيادات السياسية بتحقيق عدالة الأجور فور وجود موارد مالية، فكيف يتحقق من وجهة نظرك، التوازن بين الأجور العادلة للعاملين فى الحقل الطبى وكذلك عدم إنفاق أكبر نسبة من موازنة الصحة على بند الأجور؟ موضوع رواتب الأطباء هو سبب رئيسى لتدمير النظام الصحى فى مصر وليس فقط معاناة صغار الأطباء، ففى كل بلاد العالم يتم تقييم الأجر على أساس شروط شغل الوظيفة وصعوباتها ومسئولياتها، فالطبيب هو الحاصل على أعلى الدرجات النهائية فى الثانوية العامة ويدرس لمدة ست سنوات متصلة وشاقة بكلية الطب، وهذا يعادل ضعف أغلب أقرانه بالتعليم الجامعى العادى إذا تم قياسه بالوحدات الدراسية الموحدة، ويستمر بعد تخرجه فى دراسة نظرية وعملية واختبارات لمدة من ثلاث إلى أربع سنوات، بأجر اسمى أثناء فترة الامتياز والنيابة، حيث يصبح "مساعد إخصائى" وذلك شرط لأغلب الوظائف الطبية فى الوقت الحاضر، ثم يتوجب عليه المتابعة فى التعليم المستمر للترقى أو حتى لاستمرار ممارسة المهنة، فى عمل لا يعترف بالإجازات أو الوقت أو المكان، وفى ظروف المحاسبة المستمرة والتعرض للعدوى والإجهاد من ذلك استقر الأمر فى أغلب دول العالم المتحضر على منح الطبيب الحديث أو طبيب الأسنان أو الصيدلى راتباً يصل إلى ضعفى أو ثلاثة أضعاف قرينه الجامعى، ويزداد هذا الفرق مع التخصص الدقيق فى المهنة، ولذا نجد أن أغلب الأطباء فى أوروبا مثلاً يعملون براتب ثابت مع بعض حوافز إنتاج فى المستشفيات العامة، وقليل منهم يسمح له بممارسة المهنة فى القطاع الخاص إذا لم يتعارض ذلك مع وظيفته وواجباته، أو أن يتفرغ للقطاع الخاص، أما فى مصر فقد عقد اتفاق غير مكتوب من قديم الزمن مع الأطباء بأن يتقاضوا رواتب اسمية وأن يحصلوا على دخلهم الأساسى من القطاع الخاص، ومع زيادة عدد الأطباء وارتفاع التنافس فى القطاع الخاص ونموه، تعقدت الأمور كثيراً حيث أهمل نسبة ليس بقليلة من الأطباء عملهم فى القطاع العام والجامعات، وانعكس هذا على مستوى التعليم والعلاج الذى نراه بوضوح، من هنا لن يصلح النظام الصحى فى مصر إلا إذا تم التعامل مع هذا الغبن الشديد لصغار مقدمى الخدمة والأطباء الذين مازالوا أو يريدون أن يبذلوا جهدهم الأكبر فى القطاع الحكومى، وعلى كل الأحوال لا يجوز أن نسمح بإهمال القطاع الحكومى أو العام، كما يجب أن تتوحد مستويات الجودة فى جميع القطاعات ولن يتحقق ذلك عملياً إلا إذا وفرنا الأجر المناسب للطبيب ومقدم الخدمة حتى يتفرغ لعمله العام، وأن ينظم العمل بالقطاع الخاص لما يخدم المريض أولاً فى القطاعين دون تفرقة أو إهمال أو إرهاق مادى لا يحتمل.