عماد أنور-هيثم حسن - ذكى.. مراوغ.. صاحب رأى.. صفات نطلقها للإثناء ومدح الآخرين، وإن وجدت فى الأطفال، فإنها تبشر - فى مجتمعنا - بمولد أحد العباقرة، لكنها إن وجدت فى أطفال الشوارع فإنها تبشر بما لا يعلمه إلا الله. بات الحديث عن أطفال الشوارع مملا.. وكثرت موضوعاتهم فى الصحف والفضائيات، أملا فى إيجاد حل لهؤلاء المطحونين فى شوارع أم الدنيا، بحثا عن لقيمات صغيرة تسد رمقهم، أو المرور أمام طفل فى مثل أعمارهم يحتسى «كانز» البيسبى، أو يأكل «الآيس كريم» فى عز الحر، فى انتظار أن يلقى ما فى يده على الأرض، ليعبث به آملا فى تناول ما تبقى من رشفة بيبسى أو قضمة آيس كريم يطفئ بها لهيب الحر، ويمنى نفسه بتحقيق المستحيل، كونه أصبح لدقائق قليلة من المرفهين. ولم يعد من المفيد الحديث عن حالهم وتشردهم والاشفاق عليهم، لكن هذا العالم ملئ بالجديد كل يوم، بل كل دقيقة، يحملون فى عقولهم الصغيرة بحورا من الأفكار السلبية التى تودى بهم إلى الهلاك، يحملونها عن قناعة، فمنهم من يشعر بالرضا التام بعد أن ترك المدرسة، ومنهم من يستخدم الكذب وسيلة للمراوغة حتى لا يفصح عن هويته الحقيقية، ومنهم من فاض به الكيل من الشخص المسئول عن تسريحه، ويفكر ويخطط للخلاص منه. «ميدان التحرير».. عنوان الثورة والحرية، بات منجما ضخما يحمل داخله حكاوى المصريين من كل الفئات والطبقات، خصوصا بعد أن وجد فيه أطفال الشوارع ملاذهم الأخير الذى يهربون فيه من جميع ما يعانونه فى الشارع المصرى من ذل واحتقار لذاتهم، وبات أيضا وسيلتهم لكسب الرزق، لذلك فإن عيونهم تؤكد أمانيهم فى أن يبقى الوضع كما هو عليه، خوفا من عدم وجود مكان آخر يأويهم. داهمنا بمجرد دخولنا عليه قائلا: «إنت من الحكومة»، وجرى مهرولا خوفا منا، لكنى أسرعت للحاق به مؤكدا له أنى شخص عادى جدا، لكنه رفض التصوير تماما. هكذا فعل (ميشو – 12 سنة)، ومع اصرارنا على الحديث معه، نسج حكاية، فهيئته وملابسه ومنظر يديه وقدميه توحى بأنها لم تمسها المياه منذ أيام عديدة، اكتست يداه الصغيرتان بطبقة من السواد، لكنه حكى عكس ذلك تمام، حيث أكد أنه يعمل نجارا، وقد حصل على إجازة للتنزه فى الميدان، لذلك حرصت على متابعته لساعات، وجدته دائم الوجود خلف إحدى الخيام ينام ويصحو، ويتجول فى الميدان. تعمدت الذهاب إليه مرة أخرى، فقال، إنه تخوف من أن أقوم بتسليمه للداخلية، وقال “مش عاوز أروح الأحداث، أنا ببيع مناديل.. ومش عايز حاجة من حد، وعاوز أفضل كده"، لكنه رفض تماماً الحديث عن أهله، وهرب من أمامى. “أنا بعرف أقرا وأكتب.. ومش محتاج أكمل تعليمى، علشان محدش يذلنى".. هكذا عبر (عبده محمود – 13 سنة) عن قناعته الشخصية فى هدوء شديد، بعد أن ترك التعليم من الصف الثالث الابتدائى، وترك منزل “جوز أمه" الذى يعامله معاملة سيئة، ويمن عليه بالتعليم ومصاريف الدراسة، لذلك تحدى التعليم وأصر أن يكمل حياته فى الشوارع، وأن يتسول الناس للحصول على قوت يومه. وعندما سألناه، لماذا لم تفكر فى الذهاب إلى دار رعاية “أطفال الشوارع" أجاب، وليته ما أجاب حيث قال: “أمى ما استحملتنيش تفتكر فى حد تانى ممكن يقدر يستحملنى". أما إسلام، يفكر بعقلية مختلفة تماما، فهو من أكبر المناهضين للداخلية والضباط، ومن الشامتين فيما يحدث لهم الآن، لما تعرض له من ضرب وإهانة على يد بعضهم، وقال “محدش فيهم كان بيفكر فى ظروفى، أو يفكر يدينى جنيه أجيب ساندوتش، كل همهم أنى ما أقفش فى الشارع، حتى محدش فكر يودينى دار رعاية، أسهل حاجة عندهم يودونى الأحداث، وحضرتك عارف يعنى إيه أحداث". وقال إسلام بسعادة شديدة، “أنا مش خايف من الداخلية"، لأنها لا تقدر على دخول الميدان تخوفا ممن فيه وذلك لأن المعتصمين يضربون الحكومة. إسلام، حاله مثل حال أغلب أقرانه، حيث هرب من أهله لأنهم يجبرونه على العمل ويأخذون منه الأموال التى يعمل بها، وهذا غير ما يلاقيه من ضرب وعنف، لكن الطريف ما اختتم به حديثه، حيث قال «إن الناس الكبيرة فى الميدان هم من يقولون له إن الإخوان هم السبب فى أنه عايش فى الشارع كدi فياريت يرحمنا مرسى». أما (محمد عوض – 12 سنة) قال: إنه ترك المنزل وجلس وفى الشارع لأنه وأسرته لا يجدون ما يأكلونه فى البيت، فأبوه بلا عمل وله 5 أشقاء، ويأكل من القمامة هو وأفراد أسرته، مشيرا إلى أنه مقيم فى الميدان منذ عام تقريبا. محمد يعمل مع أحد باعة ساندويتشات الفول والطعمية بالميدان، لكن عمله هذا يتسبب فى تعرضه للمشاكل، حيث يعانى من بعض الشباب الموجودين بالميدان الذين يأخذون منه ما يكسبه من عمله، قائلا: “الدنيا مش سايبانا فى حالنا". (سارة – 10 عاما)، قالت: إنها قررت الهروب من زوج أمها لأنه كان يضربها وأكملت بلهجة طفولية مليئة بالمرارة: “أنا مش بحبه، كان بيضربنى، وماما مكنتش بتقدر تقف قدامه، وكانت دايما تقولى لازم تسمعى كلامه". وأضافت: “أنا بنام مع أصحابى ومش محتاجة أرجع تانى عند ماما وجوزها، أنا مش عارفه بابا فين، لكن من زمان لما كنت أسأل ماما تقوللى إنه مات عند ربنا". ترددت لحظة ثم قالت: “لأ أنا كدبت عليكم، أنا بصراحة تعبانة من النوم فى الشارع ونفسى أرجع عند ماما، لكن خايفة من جوزها يضربنى تانى".