أسعار اللحوم والدواجن اليوم 28 سبتمبر بسوق العبور للجملة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» 28 سبتمبر 2024    الضاحية الجنوبية في بيروت تتعرض لهجوم إسرائيلي واسع وعنيف ومتواصل    فصائل عراقية تعلن استهداف موقعا إسرائيليا في الجولان المحتل بواسطة الطيران المسير    بايدن يوجه بتعديل وضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط    تشكيل ليفربول المتوقع أمام وولفرهامبتون.. محمد صلاح يقود الهجوم    بسبب الخلافات.. قاتل ابن عمه ب المنوفية في قبضة الأمن    اختبار شهر أكتوبر رابعة ابتدائي 2025.. المواعيد والمقرارات الدراسية    وفاة زوجة الفنان إسماعيل فرغلي بعد صراع مع السرطان    "الصحفيين" تحتفل بمئوية فؤاد المهندس، اليوم    عودة أسياد أفريقيا.. بهذه الطريقة أشرف ذكي يهنئ الزمالك بالسوبر الأفريقي    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    ذكرى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.. رمز الاستقلال الوطني والكرامة العربية    هشام جمال ينصح المشاركين في «كاستنج»: حاول مرة أخرى إذا فشلت    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    ميلان يتغلب على ليتشي بثلاثية بالدوري الإيطالي    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    نبيل الحلفاوي يوجة رسالة للزمالك بعد فوزه بلقب السوبر الإفريقي    تفاصيل إصابة شاب إثر الاعتداء عليه بسبب خلافات في كرداسة    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيرى.. والذئاب الثلاثة
نشر في الأهرام العربي يوم 31 - 01 - 2012

ريشة الفنان: أنس الديب - تريد أن تعرف، أين كانت »المأساة«.. أحيلك لواقعتين، واقعة الاعتداء على عبد الرازق السنهورى باشا عام 1954، بسبب خلافه مع الزعيم جمال عبد الناصر,حول قانون مجلس الدولة, يومها ضرب المفكر القانونى الكبير بالحذاء، وقال سعد زايد قائد الاعتداء والذى أصبح فيما بعد محافظا للقاهرة: «القانون هو ما يقوله الرئيس».. والثانية يوم تم الاعتداء الوحشى على المفكر الكبير المؤسس لأحد روافد الوعى المصرى بل الإنسانى الحديث الراحل الكبير عبد الوهاب المسيرى، يومها خرج يتظاهر مع شباب »كفاية« احتفالا بذكرى 18 و19 يناير, فضربوه وسحلوه واعتقلوه ورموه مع زوجته فى الصحراء, كان مريضا بالسرطان فلا رحموا مرضه ولا سنه ولا قيمته.. ولكنه هزمهم..
هزم كل أنواع الديكتاتورية، بهذ العقل الجبار الذى تلبس صورة المفكر الحقيقى، الذى ينحاز إلى الوطن لا إلى الحاكم، إلى الشعب لا إلى السلطة، ومن أجل ذلك قال يوما «ليس مثقفا من لا ينزل إلى الشارع».. وإذا كانت علاقة المثقف بالسلطة ملتبسة, تجعل فى أغلب أمثلتها، المثقف خاضعا لرغبات السلطة وأهوائها، فإن علاقة المثقف بالشارع أكثر التباسا, وتنتج فى أغلب أمثلتها صورا رديئة لتعالى المثقف السمج على شارعه وأبناء أمته، وهو تعالى يبرر له فيما يبدو خضوعه للسلطة، وفى تلك الحكاية الشهيرة عن أحمد لطفى السيد مثل على ذلك.. قال أعداؤه للفلاحين إن «الديمقراطية تعنى الكفر وإباحة تبادل الزوجات».. فذهب الفلاحون إليه وسألوه: هل أنت ديمقراطى؟ فقال: نعم.. فلم يعطوه أصواتهم فى الانتخابات... وعند هذا الحد تنتهى القصة.. ويذكرها المثقفون والمستنيرون وهم يمصمصون شفاهم ساخرين من جهل الشعب ومكر الغوغاء... الحقيقة أن هذه القصة دليل إدانة على ما يمثله أحمد لطفى السيد.. فحتى هذه اللحظة لم ينزل الليبراليون والعلمانيون والمستنيرون إلى الشارع وإلى الناس ليقولوا لهم حقيقة الديمقراطية وإنها ليست كفرا.. فحتى هذه اللحظة لم يمارس المثقفون والمستنيرون أو من أدعوا لنفسهم هذه الصفة - إلى الشارع ويقولون لأبناء شعبهم ما الحقيقة؟
فتركوا الشارع للحاكم وحزيه وللسلطة ومعبريها ولك فى الانتخابات الأخيرة عبرة.. فلم ينجح إلا من نزل للناس.. غير أن المفكر الكبيرة عبد الوهاب المسيرى فى علاقته بالسلطة وفى علاقته بالشارع والأهم وفى علاقته بنفسه كان استثناء خالصا، يؤكد الدور الحقيقى للمفكر، وإن كان فى وجه آخر يؤكد قاعدة تهافت المثقفين. عبد الوهاب المسيري المولود فى 8 أكتوبر 1938، والمتوفى فى 3 يوليو 2008، قاد وعينا بأعماله التى كان من أهمها «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية « والتى ستظل القاعدة المعرفية فى حرب الوعى بيننا وبين المشروع الصهيونى، الذى يعتبر المسيرى فردا، أخطر أعدائه، لسبب واحد هو استناده للوعى وكشفه لحقائق التاريخ... ثم هو أحد كبار مؤسسى حركة »كفاية« ومنسقها العام، التى كانت أكبر صرخة منظمة ضد مبارك ونظامه، والتى خرجت منها ثورة يناير الشريفة, ولا أستطيع أن أعدد مواقف الرجل الفعلية والواقعية التى ترمز لتجرده وتحرره من ربقة السلطة، وإلى الدور الحقيقى لمثقف مستنير لم يتعال على أبناء أمته، لا أستطيع أن أعدد- لأننى أبحث عن كيفية وصوله لهذه الصورة الرائعة لاتساق المثقف مع نفسه؟ تكمن الإجابة فى علاقته بنفسه بالطبع، وهو ما فصله فى مقال رائع بعنوان «الذئاب الثلاثة» أتمنى أن يأتى اليوم الذى أراه مقررا فى المناهج التعليمية وفيه يقول: حينما عدت إلى مصر من الولايات المتحدة عام 1969، بعد حصولي على الدكتوراه، كنت ممتلئاً ثقة بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وإقامة العدل في الأرض.. فقد هاجمتني ثلاثة ذئاب شرسة (هكذا أسميها) ظلت تنهشني بعض الوقت: ذئب الثروة وذئب الشهرة والذئب الهيجلي المعلوماتي. أما الذئب الأول فهو ذئب براني تماماً، وهو ذئب الثروة الذي يعبَّر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكون ثرياً. فقد أتيت من عائلة تجارية، مصدر الشرعية فيها هو الثروة، ومن هنا إن لم يحققها المرء، انتابته المخاوف واهتزت ثقته بنفسه.
ولكن كان من السهل علي أن أتغلب على هذا الذئب، وأن أقرر أن مشروعي لمستقبلي ربما لا يأتي بالثروة ولكنه سيأتي بالحكمة، وأن أسلوب حياتي بما فيه من آفاق ثقافية واسعة وعلاقات إنسانية دافئة أفضل بكثير من حياة التراكم الرأسمالي بما فيها من أحادية وتنافس (ولعل هذا جزء من ميراث أمي ومجتمع دمنهور التراحمي). وقد نجحت إلى حدٍ كبير في توظيف المال بدلاً من أن يوظفني. ولم أترفع قط عن القيام بأي عمل، ولم أمانع على سبيل المثال في أن أعمل عضواً في فرقة مكافحة الحريق بمصنع الكابلات في نيو برونزويك. وقد هزمت ذئب الثروة تماماً إلى درجة أن حمل الإحساس بالذنب من الثروة قد أمسك بتلابيبي بعض الوقت. فبرغم حدودي المالية، فإنني أشعر بالذنب من أجل أصدقائي الذين دخلوا طاحونة المحاضرات الإضافية لتحسين دخلهم. وكان الإحساس بالذنب قوياً إلى درجة أنني لم أتمكن من أن أخط حرفاً واحداً لمدة عام تقريباً. ولم يشفني من هذا الحمل س ثروة، ومع هذا يتكالبون على المال بشكل مقزز ولا يخطون حرفاً. حينئذ اكتشفت أن التأليف والثروة أمران منفصلان، وأن الثروة قد تكون عنصراً مهماً ولكنه لا يؤدي بالضرورة إلى التأليف.
أما الذئب الثاني، فهو أقل بَرَّانية ومادية، وهو ذئب الشهرة الذي يعبِّر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أصبح من المشاهير... وقد استيقظ وبكل ضراوة عام 1979، حينما عدت للمرة الثانية من الولايات المتحدة الأمريكية. وكان جو التطبيع سائداً في القاهرة، وبطبيعة الحال لم أسترد مكاني في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام (وكما قال لي مدير المركز آنذاك إن عودتي له تعني القيام بالهارا كيري أي الانتحار على الطريقة اليابانية فكان ردي عليه أن الحياة حسب الشروط المهينة التي قد يضعها الآخرون ليست أمراً عظيماً على أية حال، وقد يكون الانتحار هو أحسن اختيار.
والانتحار في هذه الحالة ليس انتحاراً وإنما استشهاد في سبيل رسالة). وبطبيعة الحال لم أُدع للحديث في الإذاعة والتليفزيون، وبدأ بعض المذيعين، ممن كنت ضيفاً دائماً على برامجهم، يخافون حتى من الحديث معي. بل إنني كنت أجد صعوبة بالغة في دخول مبنى الأهرام، وكان عليّ الاتصال بمساعدتي السابقة للتوسط لي. باختصار شديد وجدت نفسي نكرة، ومن ثم بدأ جوع ذئب الشهرة ونهمه يتزايدان.... وويل للمرء الذي يربح كل شيء ويخسر نفسه. حينئذ أخبرت ذئب الشهرة داخلي أنني لا أمانع في الشهرة حسب شروطي، تماماً كما أنني أحب الثروة بمقدار ما تخدمني. وهكذا صرعت ذئب الشهرة داخلي، وقبلت أن أعيش بعيداً عن الأضواء، خصوصاً حين بدأت في كتابة الموسوعة بما كانت تتطلبه من عزلة شبه كاملة أحياناً. بقي بعد ذلك أهم الذئاب وأكثرها خطورة وضراوة وجوانية، وهو الذئب الهيجلي المعلوماتي، وهو ذئب خاص جداً، جواني لأقصى درجة، يعبِر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكتب كتاباً نظرياً، إطاره النظري واسع وشامل للغاية ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل، إن لم يكن كلها.
أي أنني كنت أعمل في كتابة عمل يصل إلى أعلى مستويات التعميم والتجريد والشمول، وفي الوقت نفسه تصل إلى أقصى درجات التخصيص والدقة. وهذه صيغة مستحيلة لأنه إن اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، استمر الذئب الهيجلي المعلوماتي متربصاً بي. ويظهر ترويض الذئب الهيجلي المعلوماتي في النصيحة التي أسديتها لصديقي كافين رايلي. فقد كان يكتب كتابه الغرب والعالم، والذي استغرق معظم حياته الفكرية، وكان لا يكف عن الإضافة والتعديل ولا يجرؤ على نشره. فأخبرته: كافين، يحين وقت في حياة الإنسان، يكون الكتاب الوحيد الذي يستحق القراءة هو الكتاب الذي يؤلفه. وهي عبارة تهدف إلى أن أبين له أن المعرفة لا حدود لها وأن المعلومات بحر يمكن أن يبتلع المرء، ومن هنا يجب أن يتوقف المرء عند نقطة ما.
وقد كان، إذ توقف كافين ونشر كتابه، وحقق نجاحاً كبيراً وذيوعاً منقطع النظير. وفي هذه الآونة، قرأت قصة قصيرة لكاتب أمريكي اسمه (ألان سيجر) بعنوان عن هذه المدينة وسلامنكا وتدور أحداث القصة حول رهط من الشباب ينشأون في نفس المدينة، ولكن أحدهم كان بوهيميّا، لا يتردد في الانتقال من بلده إلى مدن وموانئ بعيدة (سلامنكا هنا هي رمز هذا العالم البعيد الذي يرتاده صاحبنا). وكان صاحبنا يعود من آونة لأخرى ليقص على رفاقه قصص المغامرات المختلفة التي خاضها.
أما هم فيبقون في مدينتهم ليعلموا أبناءها وليبنوا بيوتاً وجسوراً. وتدعونا القصة للإعجاب بالبطل البوهيمي، ولكن تعاطفنا الحقيقي يتوجه لهؤلاء الذين بقوا وعلموا وبنوا. وقد تعلمت من هذه القصة أن التحليق البانورامي ليس دائماً صفة إيجابية، وأنه يمكن أن يقنع المرء بالقليل وينجزه. ولذا حين عدت من الولايات المتحدة كان عندي ثلاث متتاليات: أن أكون ناقداً أديباً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً، فإن أخفقت فلأكن أستاذاً جامعياً وأباً وزوجاً متميزاً، وغني عن القول إن متتالية حياتي كانت مختلفة عن س س (الجامعة، ولا أدري هل كنت أباً وزوجاً متميزاً أم لا، ولأترك الحكم لأولادي وزوجتي). ولكن المهم أنني روضت الذئب الهيجلي، والنزعة النيتشوية الفاوستية: أن أجوب كل الآفاق وأن أجرى كل التجارب وأن أجاوز كل الحدود، وبدلاً من ذلك، قبلت الحدود الإنسانية واحتمالات الانتصار والانكسار. وبرغم إدراكي لمخاطر الذئب الهيجلي، وبرغم نجاحي في ترويضه (ومن هنا نجحت في نشر بعض الكتب التي لا تحتوي على دراسات شاملة كاملة ضخمة ... إلخ)، فإنه ظل رابضاً داخلي، فكنت كلما انتهيت من إحدى دراساتي عن الصهيونية، أعلن أن هذه آخر دراسة، أملاً في أن أبدأ دراستي النظرية الشاملة والتطبيقية في ذات الوقت.
ومع هذا ظلت الصهيونية (كموضوع للدراسة) تلاحقني، وكلما انتهيت من كتابة دراسة ما عن الصهيونية كنت أجد نفسي مضطراً لكتابة الثانية ثم الثالثة، وهكذا (كنت أشعر أحياناً أن من يدفعني إلى ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وأن هذه مشيئته ). وقد قررت عام 1984، أن أذبح الذئب الهيجلي المعلوماتي تماماً، فقبلت الاستمرار في الكتابة في حقل الصهيونية وحسب، أي أنني تخليت عن المشروع النظري التطبيقي الطموح. والطريف أنني حينما فعلت ذلك، تداخلت كل الأطروحات الأيديولوجية والفلسفية (وهي على كلٍّ كانت متداخلة منذ البداية) وتبلورت النماذج التحليلية، وبدأت أحاول الإجابة عن التساؤلات التي تطرح نفسها عليّ من خلال دراساتي في اليهودية واليهود والصهيونية التي تحولت تدريجياً من الموضوع الأساسي للموسوعة إلى مجرد دراسة حالة، أي أنني أتصور أنني كتبت دراسة تتسم بقدر معقول من التجريد والشمول ومن التعيُّن والتخصيص، وأن الحلم الهيجلي (أو بعض جوانبه) قد تحقق دون أن ينهشني الذئب. ويستمر هذا المقال الرائع فى شرح كيفية الوصول لفكرة رائعة تعبر عن اتساق الإنسان مع نفسه، وهى فكرة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد استغرق حياة المفكر الكبير الذى افتتح موسوعته الشهيرة هكذا: كان يوماً عابقاً برائحة التاريخ والأزلية.
حلمت أنني أسير في حقول المشمش، رائحته الطيبة تمسني مساً، ونواراته البيضاء تحوم من حولي كفراشات نورانية. وحينما استيقظت كان الفرح يسري في كياني. وفي الصباح أخبرني صديقي أننا سنذهب إلى عزاء شهيد فلسطيني: حصده الرصاص وهو يحاول أن يعبر السلك الشائك ليعود للأرض. كان منزل الشهيد على قمة تل من تلال عمان، والطريق المؤدي له محاطاً بأشجار المشمش رأيت نواراته البيضاء وشممت رائحته. وحينما دخلت المنزل لم أسمع بكاءً ولم أر علامة من علامات الحزن، بل وجدتهم يوزعون الحلوى ويتقبلون التهاني ويقولون: إن شاء الله في البلاد.
وكان الجميع يتحدث عن الفداء والتضحية. جاء مجلسي إلى جوار عجوز من أتباع الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) قال: كنا نعلم تمام العلم أن أسلحتنا العثمانية عتيقة، وأننا كلما اشتبكنا مع الصهاينة والإنجليز فإنهم يحصدوننا حصداً برصاصهم، كما فعلوا مع ابننا الشهيد. ومع هذا كنا ننزل كل ليلة من قرانا كي ننازلهمس. : زس قديم من جبال فلسطين وقال: حتى لا ننسى الأرض والبلاد.. حتى لا ينسى أحد الوطن. وفي المساء زرت أبا سعيد، خالد الحسن، كان في مرضه الأخير ولكنه كعادته كان متماسكاً لا يتحدث إلا عن الصمود، وعن الوطن السليب، وعن العودة إلى الأرض، إلى البلاد. وكانت معي أولى نسخ هذه الموسوعة فأعطيتها له، فأمسك أحد المجلدات وابتسم. حين خرجت من المستشفى تساءلت: هل تموت الفروسية بموت الفارس؟ هل تموت البطولة باستشهاد البطل؟ وهل يختفي الصمود إن رحل بعض الصامدين؟ ثم تذكرت كلمات العجوز في فرح الشهيد. حينئذ عرفت الإجابة، فسرى الفرح في كياني.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.