وإذا أردنا توثيق وتحديد مفهوم جديد كان أو قديم لشخصية الإرهابى أو المتطرف، فنحن هنا أمام العديد من المفاهيم والثوابت لا يختلف عليها عالم أو جاهل على السواء... فالتكوين السوسيولوجى لخروجه على المفاهيم والأعراف والسلوكيات المتبعة مجتمعياً فى كل أشكالها وتصادماتها، واضحة المعالم فى غلوها وشططها بعيداً عن التوسط والاعتدال. فكل ما هو خارج عن القانون والدستور السائد لمجتمع، يعتبر نوعاً من التطرف، خصوصا إذا ارتبط بإزهاق الأرواح والتعدى على حرية وأفكار وانتماءات الآخرين وتهديد أمنهم.
وحتى لا نقع فى جدلية الإنسان المثالى فى الحكم على سلوك ما بأنه متطرف، يجب أولاً أن يكون لدينا نموذج مسبق مثالى لهذا الإنسان، فكلما كانت المجتمعات مستقرة ولديها ثوابت أخلاقية ودينية واجتماعية، وحققت نمواً تعليمياً وعدالة اجتماعية وكانت الحركة البشرية فيها متطورة، قلت فيها نسبة التطرف.
فهناك ظواهر وصفات اجتماعية يمكننا أن ندرجها تحت منظومة التطرف قد تشكل على المدى البعيد نوعاً من الإرهاب مثل الرشوة والغش والتزوير... إلخ.. فكل سلوك يقدم الخير والصلاح للنفس الإنسانية والمجتمعات هو السلوك القويم، وكل ما يهدم ويهدد المجتمعات فهو متطرف. ولا بد أن نعترف أن للتطرف أشكالاً عديدة ومتنوعة وكلها تقود فى النهاية إلى الإرهاب.
فهناك التطرف الدينى والعرقى والاجتماعى والمعرفى أيضاً والوجدانى والسلوكى، وكلما زاد الانغلاق والمغالاة فى أى من تلك النوعيات وخرج عن الحدود المقبولة، زاد العدوان على الآخرين، وأصبحوا قوة هائلة مهددة بالانفجار فى أية لحظة وموقف.
دعونا نخرج عن المألوف من نظرتنا للتطرف، ولا نكتفى فقط بالدعاء عليه أو الاستنكار أو الاستبعاد، ونسأل ما الذى يجعل الإنسان متطرفاً إرهابياً؟!!!. فإذا أردنا أن نرصد النتائج فلابد أن نحلل البدايات وبداية كل شخصية هى أسرتها، فالحرمان من أحد الأبوين فى سن مبكرة أو التعرض للظلم أو العنف أو الصدمات داخل الأسرة والعلاقات المحيطة من الجيران أو الأقارب أو الأصدقاء، أو على المستوى الدينى يكون عاملاً محفزاً لتركيبة تلك الشخصيات التى تحمل بداخلها محفزات خاصة بها تجعلها دون غيرها- حتى لو تطابقت نفس الظروف عرضة للانحراف أو التطرف.. من حالات اكتئاب أو قلق أو بذور للعداء والكراهية منذ الصغر لوطنه ومجتمعه، بالإضافة إلى إصابة العديد منهم باضطرابات نفسية (الاضطراب الذهني، الهوس، الفصام، الاضطرابات الضلالية، وبعض إصابات الدماغ، والمحددات العضوية كالهرمونات والعقاقير والناقلات العصبية والصبغيات الوراثية) حيث يعتقد العديد منهم بأنهم جاءوا لهداية الناس وإصلاحهم وإحداث تغير إيجابي.
أما عن شخصية القائد منهم، فتتميز بالتعالى والغطرسة والتسلط واستخدام القوة وتبنى العنف لإثبات تفرده بالفكر السليم. ومما يثير دهشتنا جميعاً هو هذا الكم للمنضمين إلى هؤلاء الإرهابيين، ولعل استهداف طائفة معينة تعانى مسبقاً من انخفاض للمستوى الاجتماعى والاقتصادى والفشل المتكرر والإحباط والمعاناة والوحدة تفسر لنا الكثير من ذلك.
وحقيقة أن معظمهم من الشباب، حديثى العمر الذى يهرب عادة بحكم سنه للدين، كوسيلة للتغلب على رغباته الداخلية (الجنس والعدوان والحماسة اللا واعية) ومحاولة إيجاد بديل لصدامه مع المجتمع وعاداته، ومثيرات توقظ هذه الرغبات بشكل ملح، فيشعر بالحصار من تلك الإحباطات والرغبات اللا أخلاقية وينتج الصراع مع نفسه والمجتمع، فيسقط جميع مخاوفه واستيائه المندفع نحو رموزه، بل يلقى عليهم اللوم فى كل الأحداث السيئة فى حياته. بالإضافة إلى حالة التغذية المرتجعة Feed Back أو ظاهرة الدوائر المغلقة، من حيث عدم احتوائهم اجتماعياً ومساعدتهم قبل الوقوع فى براثن تلك الهوة السحيقة.
ومما لاحظه العلماء فى التركيبة الجسدية والشكلية للمتطرف أو الإرهابى، أنه غالباً ما يتميز بطول زائد أو قصر مستهجن أو عاهة معينة تميزه عن الناس بشكل ما، كما يتميز بكثرة الكلام أو الحركة أو قلتهما بشكل ظاهر والحدة والتجهم والإهمال فى ملبسه والعصبية والعدوانية وضيق الأفق وقلة الثقافة وعدم تقبل الآخر.
واضطراب علاقاته الاجتماعية حتى داخل أسرته والاستعلاء على من حوله، ولا يخدعك تدينه الظاهر، فهو أبعد ما يكون عن روحانيات الدين وتساميه وبساطته وتسامحه.
وفى ظل حالة الانتشار المتزايد الرهيب لتلك المجموعات الإرهابية المتطرفة فى مجتمعاتنا، لن نستطيع إنكار الأمر والوقوف دون حراك للمواجهة.
لذا يتحتم علينا جميعاً مراجعة تلك الظاهرة بمتغيراتها التى أغفلناها سنين وسنين، ولنبدأ ببث الوعى الدينى الراقى بالهدف الحقيقى من الوجود الإنسانى والسمو النفسى وتخفيف حدة الصراع المجتمعى بمفهوم الإنسانية فى الأديان والإعلاء من أدب الاختلاف الدينى والفكرى والسياسى على السواء..
والرصد التعليمى لشخصيات الأطفال والشباب فى كل مؤسسة لحالات التطرف الفكرى والوجدانى، وتقديم المساعدة العلاجية نفسياً واجتماعياً لهم.
ودفعهم للحوار العلاجى من خلال اكتشاف نوعية الخلل المعرفى أو الوجدانى أو السلوكى وتصحيحه ومتابعته.
ولنضع دائماً فى حسباننا أن الإحباط أهم عامل منفرد فى استثارة العنف لدى الإنسان، وهذا لا يعنى بالضرورة كل الأفراد، وكلما فتحنا أبواب الحوار وأنقذنا شبابنا كلما استعدنا مجتمعاتنا سريعا،ً فاللحوار مرجعية قوية إيجابية ومتكاملة للعلاج، ففى لحظات التحول الاجتماعى والنفسى السريع الذى نمر به، والتشتت والاختلاف والتشكيك والتسفيه من كل الثوابت والأعراف ستجد أن باب الحوار حتى إن كان أكثر صخباً وعنفاً إثر تغيير المرجعيات المعرفية، سيكون هو الحل العلمى والواقعى للتعايش والتوازن فى أى مجتمع.
فلنذهب للأحياء الفقيرة والعشوائية ولكل من سبق له التورط فى الجرائم والإرهاب فى السجون ومراكز رعاية الأطفال، كل إنسان محتاج إلى الحوار، وبالطبع نحن لا نلغى عمن تورط المساءلة القانونية، ولكننا سنحاول إنقاذه من نفسه وإنقاذ المجتمع من عنف محتمل.
وأرجو ألا نتبع القاعدة التى تقول: " لا تقترب من الأعماق فتغرق"... بل نقترب ونغوص فى الأعماق ولا نسطح الحوار ولا تكون هناك أمور محظورة أو ممنوعة من الإفصاح، إذا أردنا العلاج فلا نستطيع أن نطلب السلامة حتى فى الحوار لنستطيع إيقاف تراكم نزاعات العنف وانفجارها لا بد أن نبدأ...