التعليم العالي: 3.7 مليون طالب يستعدون لبدء العام الدراسي الجديد    العواري خطيبًا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من الجامع الأزهر    أول كلمات الوحي.. فضل العلم والعلماء في القرآن والسنة النبوية| فيديو    سياسيون: التحول إلى الدعم النقدي يغلق باب الفساد وخطوة نحو العدالة الاقتصادية    تراجع أسعار الذهب اليوم الجمعة 27 سبتمبر بالتعاملات الصباحية    5 أهداف وراء إلغاء الاشتراطات التخطيطية والبنائية.. تعرف عليها    وزير التموين يوجه ببدء طرح الخضر والفاكهة بالمجمعات الاستهلاكية بالشراكة مع القطاع الخاص    بعد نشر «أهل مصر».. محافظ أسيوط يوجه بحدتين نهريتين لحين إنشاء كوبري مشاة بالنخيلة ونزلة باقور    حياة السائقين والركاب في خطر.. النقل تدعو المواطنين لحماية القطارات من الرشق بالحجارة    وزير خارجية إيران: طهران لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه الحرب الشاملة في لبنان    «البعثة الأممية لحقوق الإنسان»: لا يوجد إمكانية لاستيعاب النازحين من جنوب لبنان    أخبار الأهلي : كولر ينصب "فخ" لنجم الزمالك فى السوبر الأفريقي    "الفيديو جاهز".. جوميز يحفز لاعبي الزمالك بسخرية "نجمي الأهلي"    طارق السعيد: الزمالك لن يغامر ب محمد حمدي في مباراة القمة.. وأبو علي سيصنع الفارق للأهلي    مواعيد مباريات اليوم 27 سبتمبر.. القمة في السوبر الإفريقي ومونديال الأندية لليد    استغاثة على فيسبوك.. حقيقة اختفاء طفلة بالإسكندرية    مصرع 3 أشخاص وإصابة 15 آخرين في حادث بسوهاج    غلق الدائري من الاتجاه القادم من المنيب تجاه المريوطية 30 يوما    مميزات وشروط الالتحاق في مدارس «ابدأ».. تخلق كيانات تعليم فني معتمدة دوليا وتواكب سوق العمل    موعد ومكان عزاء شقيق المخرج مجدي أحمد على    جولة بحرية في القناة.. ملتقى «أولادنا» لذوي القدرات يزور الإسماعيلية    زينة تنشر صورا لها بمرحلة الإعدادية.. والجمهور: "فيكي شبه من جيهان نصر"    حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وفضلها ووقت قراءتها    الصحة تعلن عن جهودها في مقاومة مضادات الميكروبات باجتماع العامة للأمم المتحدة    3 أطعمة رئيسية تهيج القولون العصبي.. استشاري تغذية علاجية يحذر منها    مساعد وزير الصحة يتفقد مستشفى منفلوط المركزي الجديد    صحة المنوفية: تخصيص 4 مستشفيات لإنهاء قوائم انتظار «العظام»    سقوط فتاة من الثالث في ظروف غامضة بالحوامدية    محافظ أسوان يقدم واجب العزاء لمدير الأمن وأسرة الشهيد النقيب محمود جمال    استقرار سعر اليورو اليوم الجمعة 27-9-2024 في البنوك    تحديات التعليم.. كيف تواجه الحكومة عجز المعلمين والكثافة الطلابية؟    كرة اليد، الزمالك يواجه تاوباتي البرازيلي في افتتاح مونديال الأندية    ليلي علوى فى المركز الأخير بشباك التذاكر ب جوازة توكسيك    سيميوني: أتلتيكو مدريد يحتاج لهذا الشئ    رئيس جامعة القاهرة يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من كلية العلوم    وزير الخارجية اللبناني يدعو لتدخل دولي ووقف إطلاق النار    مصر تستعد لاستقبال التوقيت الشتوي: كيف يساهم في تخفيف عبء أزمة الطاقة؟    البيض ب150 جنيهًا.. الزراعة: ضخ منتجات وسلع غذائية بأسعار مخفضة    تفاصيل لقاء رئيس الرعاية الصحية والمدير الإقليمي للوكالة الفرنسية للتنمية    ما حكم الجمع بين الصلوات لعذر؟ الإفتاء تجيب    دعاء للوالدين المتوفين يوم الجمعة.. «اللهم أبدلهما دارًا خيرًا من دارهما»    «الأوقاف» تفتتح اليوم 14 مسجداً بالمحافظات    إطلاق صواريخ من لبنان على حيفا    وزير النقل يشدد على الالتزام بالسرعات المقررة وفحص القطارات قبل التحرك من المحطات    أسعار حفل أنغام في المتحف المصري الكبير الشهر المقبل    تامر حسني يشيد بأداء أحمد العوضي: فنان كبير ومكسر الدنيا    فلسطين.. شهيدان وإصابات جراء قصف طيران الاحتلال لمنزل غرب مدينة غزة    أمين حلف «الناتو» يدعو لشراكات أقوى مع دول الخليج في خضم التطورات الراهنة    «صباغ» يبحث في نيويورك مع عدد من نظرائه التعاون الثنائي والتصعيد الإسرائيلي بالمنطقة    وزير خارجية الأردن: إسرائيل أطلقت حملة لاغتيال وكالة «أونروا» سياسيًا    خالد الجندي: لهذه الأسباب حجب الله أسرار القرآن    فنربخشه يعبر سانت جيلواز بالدوري الأوروبي    مصدر: الأمن يفحص فيديوهات تحرش أطباء بالمرضى| خاص    برج الحوت.. حظك اليوم الجمعة 27 سبتمبر 2024: أنت محظوظ في الحب    حسام حسن: من الصعب توقع مباراة القمة.. وصفقات الأهلي والزمالك قوية    سر رفض عاطف بشاي ورش الكتابة في الأعمال الفنية.. أرملته تكشف (فيديو)    بعد سحب ضابط مطاوي على الأهالي .. داخلية السيسي تضرب الوراق بالقنابل والخرطوش والقناصة!    أحمد الطلحي: سيدنا النبي له 10 خصال ليست مثل البشر (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الأهرام العربي» تنشر اليوميات الأخيرة للراوئي شريف حتاتة
نشر في الأهرام العربي يوم 22 - 05 - 2017

تنفرد الأهرام العربي بنشر اليوميات الأخيرة «قبل الرحيل» للكاتب والروائي شريف حتاتة الذى رحل عن عالمنا صباح اليوم الاثنين عن عمر يناهز ال94 عامًا.
ولد "حتاتة" فى 13 سبتمبر 1923، وهو طبيب وكاتب وروائى، وتخرج في كلية الطب، في جامعة «القاهرة». وانصب اهتمامه على السياسة ليسجن بسبب نشاطه السياسي 15 عاماً حتى أُطلق سراحه في الخمسينات، وعمل في «وزارة الصحة»، و«منظمة العمل الدولية» حتى العام 1980، ليتفرغ بعد ذلك تماماً للكتابة. وصدر له أكثر من 20 مؤلفاً بمجالات الرواية والدراسات وأدب رحلات.
كتب حتاتة مذكراته «النوافذ المفتوحة» التي تضم بداياته وشبابه وأفكاره منذ ولادته في لندن لأب مصري وأم إنجليزية. وتزوج من الكاتبة نوال السعداوي ثم انفصلا في 2001، وتزوج بعدها الكاتبة والناقدة السينمائية أمل الجمل.
ومن أعماله روايات العين ذات الجفن المعدنى، الهزيمة، الشبكة، قصة حب عصرية، نبض الأشياء الضائعة، عمق البحر، عطر البرتقال الأخضر، ابنة القومندان، الوباء رقصة أخيرة قبل الموت.
وله مؤلفات أخرى منها النوافذ المفتوحة (سيرة ذاتية)، طريق الملح والحب (يوميات)، رحلة إلى آسيا (أدب رحلات)، يوميات روائي رحال (يوميات)، وفي الأصل كانت الذاكرة (يوميات)، تجربتى فى الإبداع (دراسات أدبية)، فكر جديد فى اليسار (كتابات سياسة)، العولمة والإسلام السياسى (كتابات سياسية)، فكر اليسار وعولمة رأس المال (كتابات سياسية).
الأهرام العربي تنشر بعض نصوص اليوميات الأخيرة للكاتب والروائي شريف حتاتة فى السطور التالية:

الجمعة 31 أكتوبر 2014
الساعة الآن العاشرة والنصف. الدنيا ظلام لا يضيئ الشارع إلا بعض المصابيح. أنا وحدى فى المنزل مستيقظ لا أريد أن أنام، ولا أريد أن افعل شيئا. أريد أن أظل جالسا هكذا دون حركة أستمع إلى أصوات الليل. أشعر بالضعف فى جسمى يتزايد ، بساعة الرحيل تقترب. عندما أكتب أنسى هذه الحقيقة، تختفى فى مكان ما من عقلى الباطن. أنسى معها المعاناة التى تنطق فى وجوه الشوارع، فى نظرة العيون، فى دوى المفرقعات، فى اللذين يُقتلون. أنسى القمع يتزايد كل يوم. أنسى كل شىء ما عدا الكلمات تتوالى فى ذهنى أو تتوارى معاندة ثم تعود مثل ومضة من النور.
انتهيت من كتابة رواية جديدة منذ شهور. الآن عقلى عاجز عن الخيال. يطحن شذرات مفككة، يلفظ كلمات كالقش والحطب، لا روح فيها، فأشعر بالشيخوخة تحاصرنى خطوة بعد خطوة. ابتعت كتابا عن الرقص. قرأت صفحاته شاعرا بالملل. أشعر بالملل من كل الكتب. أبتاع كتبا فى السياسة، فى التاريخ، فى الأدب. أقرأ فيها صفحات ثم أركنها جانبا. ذهبت إلى الحزب تصرخ فيه الجُمل. لحظة من الحماس عدت بعدها إلى البيت محبطا لأجلس على المقعد المنخفض. أحسست بالإختناق فأرتديت الجورب تمهيدا للخروج من المنزل، لكنى لم أخرج. ظللت جالسا أتأمل ساقى وقدمى تورمت. قلت لنفسى هل سيمر ما تبقى لى من زمن هكذا؟ قم وسر بهما رغم الألم.
فتحت دولاب الملابس. أخرجت منه قميصا وبنطالا أدخلت فيه ساقى مسندا ظهرى إلى الحائط. ارتديت حذائى المطاطى الأسود جالسا على المقعد المنخفض. فتحت درجا فى المكتب وأخرجت منه مفتاح الباب والمحفظة، والمحمول ومناديل من الورق. خرجت من الباب وهبطت على السلالم انكسر رخامها.
سرت فى الشوارع الصامتة قاطعا مسافات قصيرة أستريح بعد كل منها جالسا على رصيف الشارع. تأملت الأشجار تميل أغصانها بحركة هامسة. ترددت فى أذنى كلمات متفرقة لا معنى لها. عدت إلى البيت. صعدت السلالم مسندا يدى على الحاجز. فتحت الباب ودخلت. أضأت الأنوار فانبعثت الشقة من الظلام بجدرانها البيضاء وأثاثها. لم أخلع ملابسى. خلعت الحذاء، والجورب جالسا على المقعد المنخفض. قمت وجلست أمام الكومبيوتر، وكتبت على الشاشة الخالية "قبل الرحيل". هكذا بدأت هذه اليوميات لتسير بى فى مسارها المضطرب.

الأحد 2 نوفمبر 2014
ذهبت إلى المقر الجديد لحزب التحالف الشعبى الإشتراكى أصبح يحتل شقة فى الدور السادس من العمارة رقم12 فى شارع محمد الجندى. إنه شارع ضيق يصل بين شارع هدى شعراوى، وشارع البستان أفلت اسمه من ميل المسئولين نحو تغيير أسماء الشوارع لتتناسب مع الأوضاع الجديدة التى قد تنشأ مع تغيير الحكام. أسماء الشوارع تسجل المراحل المختلفة فى تاريخ البلاد بما فيها من أنظمة رجعية كانت تقهر الشعب وفترات من التقدم أعطته شحنة من الأمل فى المستقبل، فينبغى ألا يتم تغييرها. محمد الجندى كان شخصية وطنية وليبرالية نادرة احتل مكانة مهمة فى الجناح المتقدم لحزب الوفد.
فى عهد قدماء المصريين كان الفرعون يزيل الإسم المنقوش على مقبرة الفرعون الذى سبقه فى حكم البلاد. فى عهد الضباط الأحرار تمت أيضا إزالة أسماء الملك فؤاد والملك فاروق والملكة نازلى والأمير محمد على وأخرين من الأسرة الملكية وبعض المرتبطين بهم مثل مستشار القصر الخطير والمشهور برحلاته فى الصحراء الغربية أحمد حسنين. إنه شىء لا يجوز حتى إن لم نكن راضين عن الكثيرين من حكامنا لأننا عندما نزيل هذه الأسماء نشارك فى عملية تجهيل للتاريخ وللتطورات التى شملت بلادنا منذ آلاف السنين.
هناك عادة أخرى تثير عندى الضيق وهى عملية تقطيع فروع الأشجار بهدف التزيين فهى تبدو لى بعدها مستأنسة كالخراف فى الغيط، وتذكرنى بالفرشاة المسماة برأس العبد التى يتم بها إزالة التراب من على أسقف غرف البيوت لأنه إسم أو وصف ينطق بالعنصرية. الشجرة جمالها فى الحرية التى تنمو بها، فى فروعها الخضراء تصعد فى السماء، فى أنها تظلل العاملين المرهقين فى أيام الصيف، والموظفين الذين ينتظرون مجىء الشاحنة للعودة إلى البيت، فى أنها الملاذ الذى تلجأ إليه العصافير لتبنى فيها أعشاشها، أو يرقد تحتها الفلاح المرهق من العمل فى الغيط ليأخذ تعسيلة قبل أن يواصل جمع محصوله، أو تجلس فى ظلها الأسر يوم شم النسيم، أو العشاق ليتبادلوا أولى كلمات الوجد.
مقر الحزب فى عمارة قديمة مصعدها عتيق، مصنوع من خشب تشققت ألواحه، فى بابه الحديدى قطعة بارزة ينبغى تفاديها وإلا شقت جدار البطن ساعة الدخول إليه. إنه لا يسع إلا لثلاث أشخاص يتميزون بنحافة الجسم. عندما تضغط على المفتاح رقم 6 للصعود يقفز فجأة، كأنه استيقظ من سبات عميق، ثم طوال المشوار الذى يقطعه صعودا أو هبوطا يئن بصوت شاك، وأحيانا يتوقف ليأخذ قسطا من الراحة قبل أن يواصل مشواره، فيذكرنى بقطار الدلتا كنت أستقله صبيا فى سفرى إلى بلدتى القضابة لزيارة جدتى عيشة، أو أثناء الأعياد، أو فى مواسم جنى القطن وجمع المحاصيل رغبة فى التمتع المبكر بمكانة المالك.
الشقة التى يحتلها المقر شديدة التواضع لكن لا بأس بها إذا وضعنا فى إعتبارنا ضيق ذات اليد للذين يحلمون بتحقيق أهداف فى عهد لا يشاطرهم أحلامهم. تأسس الحزب بعد 25 يناير 2011 وما زال فى طور التكوين. المشاركون فيه من اليسار تلك الكلمة التى يشوبها بعض الغموض فى عصر العولمة والليبرالية الجديدة. أنا منضم إليه لأنه سمى نفسه تحالفا شعبيا إشتراكيا لكنى أتساءل عن معنى هذا الوصف، فما هى الإشتراكية فى هذا العصر، وما هى الخطوات التى تخفف من غلواء النظم التى نحيى فى ظلها، وتقودنا خطوة بعد خطوة إليها. الآن لم يتعد طبيعة المجموعة ولا أقول الشلة التى انقسمت عن التجمع وتبحث عن طريقها. أتعاطف معها وأضيق بها أحيانا ربما لأننى لست جزءا من الشلة، وهناك بينى وبينها حالة من الغربة المتبادلة. إنها ترى فى شخصا غير مدرك للواقع كما ترى هى هذا الواقع، وأرى أنا فيها يسارا تقليديا لم يتخط عيوب الأسلاف فى الكثير من تفكيره وأسلوبه، وأن هذا إن استمر، لن يضيف شيئا جديدا إلى الوضع الحزبى السائد فى بلادنا. أشعر بالتعاطف مع المنتمين إليه، وأحيانا بالضيق ربما لأننى فى اليسار منذ زمن، وأستعجل اليوم الذى يصبح لى فيه حزب اشتراكى ثابت الأقدام، واضح فى أفكاره. أقول لنفسى أصبر إن من بينهم جزءا من قطاعات الشباب الواسعة، جزءا من الذين بذلوا جهودا، وقدموا شهداءا وضحوا بسنين من عمرهم من أجل حياة إنسانية فى مجتمع لازالت نظم الحكم فيه تترك الشعب لتعانى جماهيره لأنها تخدم مصالح لا علاقة لها بمصالحها، مجتمع ظروف الحياة فيه قاسية. إنهم يواصلون جهودههم فى زمن تزرع فيه المنظمات الإرهابية القنابل فى أبراج الكهرباء، فى أقسام الشرطة، فى منشآت المحاكم، فى كل مكان تصل إليه عناقيدها لتقتل أبرياء من المدنيين أو من الجند. إنها نظم للحكم تخدم سياسات الراسمالية العالمية التى تسعى إلى تقسيم البلاد العربية بل إلى تشظيتها حتى يرفرف علم إسرائيل عاليا فى الشرق الأوسط، وحتى يتدفق البترول من أباره بعيدا عن رقابة الشعوب، وعن تنمية بلادهم ورخائها.
الاثنين 9 مارس 2015
أيام صعبة. أذهب كل يوم إلى مستشفى الشبراويشى حيث تُعطى لى جلسات أشعة الكوبالت لأتخلص من الأورام الليمفاوية الخبيثة التي عاودتني في بعض أماكن الجسم. أرقد على مائدة جلدية طويلة وباردة بعد أن أتخفف من بعض ملابسى. يحركون أسطوانة كبيرة مجوفة تقترب منى، يبدو لى أنها ستسحقنى وأنا راقد على ظهرى واضعا يدى خلف رأسي حتى أعرى الجزء الأعلى من الصدر. تنخفض الإسطوانة ببطء لكنها تتوقف فى آخر لحظة قبل أن تجثم على. يتركونى وحدى فى الغرفة الواسعة مع الآلة تشبه الحيوان الأبيض الضخم الأصم ثم أسمع صوت طاقة تفتح فأدرك أن الأشعة أصبحت مسلطة على. أبدأ في العد ببطيء حتى المائتين أو أكثر قليلا ثم أسمع الطاقة وهى تغلق. يعودون إلى الغرفة ليكرروا العملية نفسها على الجانب الآخر من الصدر. عندما تغلق الطاقة للمرة الثانية أدرك أن جلسات اليوم إنتهت. أهبط من السرير الجلدى بصعوبة شاعرا بآلام التخشب فى جسمى. تدخل أمل مع الممرض وتساعدنى فى أرتداء ملابسى. ننصرف متجهين إلى النادى لأدور ثلاث مرات حول التراك سيرا على قدمى، شاعرا أننى أجر كرتين من الحديد موثقتين حول كاحلى، بهزال يجعلنى أترنح على ساقى لكنى أصر على أداء رياضة المشى هذه كأن حياتى تتوقف عليها.
بعد ذلك أذهب إلى المقصف المفتوح حيث يقدمون وجبات خفيفة، وبعض المشروبات الساخنة أو العصائر الطازحة. أتناول ساندويتش من الطعمية أو الفول قاضما فيه بلذة العودة إلى الحياة، إلى الهواء الطلق، وظلال الأشجار، والنسمة الباردة للصباح، إلى صوت الناس يتحدثون عن الأسعار، أو السفر أو الصفقات أو المشاكل الأسرية أو الموضة الجديدة فى ملابس الصيف. أحتسى الشاى بلذة مضاعفة حتى تلحق بى أمل آتية من حوض السباحة تقَضى فيه ساعتين. نعود إلى البيت فأغتسل وأرتدى جلبابا ثم أرقد على السرير فيتبدد جزء من الضعف الذى تملكنى وأنا أصعد السلالم إلى البيت. أتساءل ترى كم من الأيام تبقى لى فى هذا الصراع للبقاء ثم فجأة أتذكر أننى فى الصباح لفتت نظر مدير المقصف بأنهم أصبحوا يخلطون عجينة الطعمية بأشياء أخرى لزيادة حجمها، وأنها لم تعد جيدة كما كانت من قبل. نظر إلىَّ وعلى وجهه مظاهر الإمتعاض، وقال نصنع الطعمية على "ستاندارد" (ينطقها بالإنجليزية أي على مقاييس مدروسة) فأضحك وأنقلب على جانبى ثم أغط فى النوم.
الأربعاء 3 يونيو 2015
بالأمس شاهدت فيلما في قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان "من أطلق الرصاص على هنرى كوريل". موضوع الفيلم الأساسى يدور حول حياة هنرى كورييل اليهودى المصرى من أصل إيطالى، وحول الدور الذى لعبه فى تأسيس تنظيم شيوعى كان اسمه الحركة المصرية للتحرر الوطنى. فى سنة 1947 إتحد سنة 1946 مع تنظيم ماركسى آخر كان إسمه إسكرا ليكون "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى" أكبر وأهم المنظمات الشيوعية فى تاريخ مصر. كنت عضوا فى هذة المنظمة، وأنا طالب فى السنة النهائية لكلية الطب، وشاركت في نشاطه إذ ذاك ثم بعدها وأنا طبيب في مستشفى قصر العيني وسجنت لأول مرة فى يونيو 1948. فى تلك الفترة كنت على صلة بهنرى كورييل بصفته المسئول السياسى للحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى ثم فيما بعد عندما عاش منفيا فى باريس بعد أن هربت من السجن فى مصر وسافرت سرا فى قاع سفينة للشحن إلى فرنسا, هناك إلتقيت به وتعاونت معه فتجددت علاقتى به.
أعادنى الفيلم إلى مصر منذ ثمانية وستين سنة، إلى أجسام العمال النحيلة فى مصانع النسيج، إلى الحفاة يخوضون فى برك الطين، إلى شعب هبط كالفيضان إلى الشوارع سنة 1946، إلى صدقى باشا والملك فاروق، والإنجليز ومعاهدة صدقى بيفن ثم إلى عبد الناصر يخطب فى حشود الجماهير ليعلن تأميم قناة السوييس سنة 1956. أعادتنى إلى هنرى كورييل، إلى رجل نحيل الجسم، أبتسامته ساحرة, لكن إرادته لا تلين. أثناء الفيلم عشت لحطات من الفخر والغصة الدفينة فى القلب. كان الفيلم مفيدا من حيث تعرضه لهذه الشخصية السياسية المتميزة بقدر من الحياد، لكنه كان خاليا من الدفء والإحساس، من التحليل العميق لشخصية هنرى كورييل وميزاته وعيوبه، لمساهماته ومعاركه المختلفة ثم لمن قتله ولماذا. إستخدم أحد الشخصيات لتمثيل دوره عندما كان شابا لكن كان هذا مفتعلا تنقصه المصداقية. لم يترك فى الفيلم أثرا له قيمة.
منذ أيام مات عالم الرياضيات الأمريكى الحائز على جائزة نوبل جون ناش. مات فى حادث سيارة بعد أن عاش حياته مصابا بأخطر أنواع الإنفصام، نوع مرتبط بالبارانويا أى بالهواجس التى لا تنقطع، فعاش وعقله يموج بالخيالات المتصارعة تمزقه ليل نهار. تحمل سنين من العذاب، لكن عقله كان مشغولا بالرياضيات فى الإقتصاد، فى إستراتيجية المعارك الخاصة بالناتو، فى نظرية اللعب، ولعبة التقليد، وفى كسر الشفرات. عاش هذيانا يوحى إليه بوجود حضارة كونية ترسل إليه رسائل مشفرة على شكل أخبار عادية يتحدث بعضها عن مؤامرة صهيونية كونية تسعى للسيطرة على الرأسمالية فى أمريكا. كان هذيانا ليس بعيدا عن الحقبقة كل البعد فالسيطرة الصهيونية الدينية والسياسية فى أمريكا مسألة واضحة. سأله زملاؤه كيف يتأتى لك أن تصدق هذيانا من هذا النوع تأتيك فيه رسائل مشفرة فى شكل أخبار عادية فقال""كانت أفكار الهذيان تأتيني بالطريقة نفسها التى تأتى بها أفكارى المبدعة فى الرياضيات فلماذا لا أصدقها".
بدا لى كلامه منطقيا فالعقل الإنسانى يعمل بذات الآليات الكميائية والكهربائية إذا واجه مظهرا من المظاهر أو معضلة من المعضلات. المشكلة عند ناش كانت أن عقله لا يقف عند الحدود التى تعتبر منطقية، كانت تتعداها إلى خيالات آخرى لكن كان عقله قادرا على صنع خيال ابداعى على نطاق أوسع من الذين يعتبرون من العاقلين، وكانت هذه ه الميزة هى سر قدرته على الإبداع فالفاصل بين الإبداع (العبقرية) والجنون ليس محددا فى كل الأحيان على نحو قاطع. لذلك كثيرا ما يصف الناس المبدعين بالجنون لأن خيالهم يتعدى ما يعتبرونه معقولا.
السبت 6 يونيو 2015
مرت ثمانية وثلاثون سنة على هزيمة يونيو سنة 1967. شريط من الذكريات يمر بذهنى. مدينة بورسعيد التي سافرت إليها أثناء العدوان فى سيارة وزير الصحة النبوى المهندس يقودها سائقه الخاص بعد أن تطوعت لتنظيم الطوارىء الطبية، فتعود إلى خالية من الناس بعد أن هاجر من المدينة عشرات الآلاف من السكان صورة إمأة عجوز مررت عليها بالسيارة وهى تنقب فى صندوق للقمامة بحثا عن طعام، أى طعام.
أقمت فى استراحة مستشفى الرمد التى أنشأها الإنحليز أثتاء الإحتلال وعندما فتحت النافذة فى الصباح جاءنى هديل الحمام يغرد فى حوش العمارة وأنا أكتب، ثم لمحت مجموعة من العسكر فى الحديقة يقفون إلى جوار مدفع مضاد للطائرات أخفى تحت الأشجار فكأننى كنت أعيش الحرب والسلام وأنا أطل من الشباك. أتذكر مكتب المحافظ فريد طولان ونوافذه المدهونة باللون الأزرق وهو يمد يده إلى فى الظلام بسيجارة كرافن إيه وفى تلك اللحظة يدوى صوت إنفجار وراءه، ناحية البحر، وتشتعل عند الأفق نيران لأكتشف يوم أن ذهبت بعدها إلى الميناء أن الضابط البحرى رجائى حتاتة رحل إلى الأبد، وأن اللقاء الذى تم بيننا فى الميناء منذ أيام سيظل اللقاء الأول والأخير في الحياة. أرى عبد الناصر وهو يلقى خطاب التنحى عن الرئاسة وأنا أتطلع في وجهه، وجه الأسد الجريح يعلن تنحيته عن مسئولية البلاد فأهبط إلى الشارع سائرا مع الملايين فى ظلام الليل لا يسمع فيه سوى أقدام تزحف على الطريق، أو صوت شاب يهمس ضموا الصفوف، ضموا الصفوف وواصلوا المشوار إلى المنشية. عندما أتذكر أدرك بعد أن مرت السنين أن التنحى كان وسيلته فى استفتاء الملايين لكى يقرروا هل يبقى أم يأتى مكانه زكريا محى الدين. إنها عشرات من الصور، جزء من شريط للذاكرة لا ينمحى.
أُصبت بإسهال أنهكني. لا أعرف سببه. توقفت عن الأكل فهو أفضل علاج له. كانت معنوياتى هابطة. أقاوم حتى أقوم بعمل الأشياء البسيطة التى لا زلت مسئولا عنها. كل انحناءة أو ميل أو حركة مقترونة بآلام شديدة فى الظهر. إحساسى بالضعف يتزايد مع الوقت أنتزع نفسى منه كلما شعرت أنه سيتغلب على.

السبت 13 يونيو 2015
سافرنا إلى الساحل. هنا عالم ليس فيه صحف، ولا أحزاب ولا أجتماعات. أتساءل وأنا جالس على الشاطىء لماذا أتعلق دائما بهذا الخيط الرفيع من الأمل في أشياء لا تتحقق. هنا البحر الأزرق والسماء الصافية، والصمت يربت على العصب المشدود المتوتر. هنا أرمم شقوق الجسد، وأخفف ما فيه من آلم ومن ورم. إنه يعصى إرادتى بلا خجل، لألعق حذاء الخضوع، وألعن القدر. هنا أصارع طغيانه سائرا على الرمال بخطواتي الحذرة ترقبا لأمواج تندفع نحوى بزبدها الأبيض. هنا أكتب هذه اليوميات بالنهار، وفى الأحلام أكتب القصص. زاهد عن الحياة، راغب فيها حتى أخر نفس. أنسى طبيبى الذى أحكى له وفى أعماقى سؤال "هل أنت قادر على إطالة الزمن"؟ فينظر إلى برسالة فى سواد عينيه تقول لماذا تضيع وقتى بتفاصيل أوجاعك بينما وقت رحيلك أزف. أعطيه ظهرى وأنصرف مغلقا الباب ورائى، وأعود إلي المرأة التى تهبنى الحياة فى حضنها.
ذهبت إليهف في الشريان التاجي لقلبي ترقد دعامة منذ زمن، منذ أن أنخفض الأكسجين الآتى إليه من الرئة. وجدته جالسا خلف مكتبه فجلست أمامه. سألني عن حالي فقلت لا بأس، لكن داخل البنطال الذى كنت أرتديه إختفت ساقي المتورمتين مثل ساقى الفيل الصغير يوم أن ولدته أمه. الجلد فوقهما مشدود لامع من ضغط السائل المتراكم. إذا وقفت وإذا سرت، إذا تقلبت فى السرير أحرك ثقلهما مثل ثقل القيود الحديدية التي ارتديتها يوما ما في سجن طرة. أتناول أقراص مدرة للبول لعلها تطرد المياه الصاعدة في ساقى تسللت منذ سنتين إلى قدمي، والآن ترتفع بالتدريج ليصل إلى أسفل البطن. أصبحت أقيس المنسوب مثلما يفعل مهندسو الرى فى موسم الفيضان. جرعة الأقراص التى أتناولها لم يعد لها نفع لكن الطبيب يقول لي احترس من زيادتها فضغط الدم عندك أصبج منخفضا، وهذه الأقراص تزيد من انخفاضه.
علل الشيخوخة تطاردني، في شرايين استهلكها العمر، في فقرات الظهر تشابكت، فمع كل حركة أو ميل من الجسم طعنة ألم فأتوقف باحثا عن مقعد أو سند. لكن لن أتوقف عن الحركة. أقوم بأعمال فى البيت وأذهب إلى الحزب. أجلس أمام الكومبيوتر وأنسى الساعات التى تمر. فى قاع العين شىء كالغشاء تمر من خلاله أشعات الضوء، فأميل على الشاشة حتى أرى حروف الكلمات وهى تزحف. أقوم مترنحا باحثا عن سريرى، عن لحظات من الراحة ثم أعود إلى السطور التى تركتها.
جالس أمام الطبيب أبحث فى سواد عينيه، فى الظلمة عن ضوء مختف. أنا بالنسبة إليه رجل مسن محكوم عليه. أنا معد للرقاد فى النعش. لا يجب أن أتوقع منه رد. لا يجب أن أنتظر منه حل. أنا وهو شركاء فى العجز، فلينقر على صدرى وليقس لى الضغط بسرعة ففى البهو ينتظر آخرون، شباب لهم عمر. أتركه يستعجلنى. أنصرف مغلقا الباب ورائى، خارجا من سواد عينيه. لا أنتظر المصعد ليرتفع إلى. أهبط على السلالم صعدت إليها قبل ساعتين حاملا ساقى، ممسكا الحاجز بقوة حتى لا ينفلت. أخرج من الباب. أرفع ثقل ساقى وأجلس فى مكانى قرب السائق ينطلق بى فى الشوارع المزدحمة المتربة للمدينة. أصعد سلم ساعات اليوم الطويل المنصرم. أفتح الباب مخطئا فتحة المفتاح. أسمع صوتها يقول جئت يا شريف ثم تخرج إلى الصالة ممسكة في يدها بشيء كانت تقرأ فيه. تسألني ما الذى قاله لك الطبيب. أقول لها لم يقل لى ما هو جديد. حالتى لا بأس بها. تقول كنت أقرأ فى كتيب ربما تجد فيه ما يفيدك. قلت أنا مرهق الآن، أتركيه قرب السرير. تقول إنه عن مركز فى ألمانيا متخصص فى التأهيل. قلت لا أعتقد أننى سأجد فيه ما يفيدنى. مددت يدى وتناولته ثم قلت لو سمحتي اصنعي لي قدحا من الشاي وساندويتشا صغيرا. لأجل خاطرك سأقرأه.

الاثنين 22 يونيو 2015
غدا سنعود إلى القاهرة. لا أريد أن أترك هذا المكان. لا أريد أن أتوقف عن النزول إلى الشاطىء قبل الغروب، عن السير على الرمال بخطواتى المتعثرة، عن الشعور بالحركة وهى تشد عضلات ساقي المهترئة. لا أريد أن أترك الشمس التي تتسلل إلى جسدي دافئة. أريد أن أفتح القميص للريح الآتى من البحر ليلف حول الجسد، أن أشاهدها سائرة على الرمال مطيرة شعرها الأسود فينبض قلبى مع خطوتها الثابتة وأقول لنفسى هذه المرأة هل تدرك مدى حبى لها؟ قالت لي سافر معي إلى مدينة في ألمانيا اسمها آخن ربما وجدنا في مركز التأهيل علاجا لك من الألم.

الشبت 27 يونيو 2015
تركنا الساحل الشمالى وعدنا إلى القاهرة، ثم سافرنا إلى الساحل مرة ثانية يوم الجمعة 26 يونيو. تركنا المنزل فى الساعة الخامسة صباحا. كان طريق النوبارية السائر حتى العلمين مغلقا بسبب أعمال إنشاء الطريق الجديد فواصلنا السفر فى أتجاه الأسكندرية حتى الكيلو واحد وعشرين ثم توجهنا إلى العجمى لنواصل مشوارنا على طريق الساحل حتى قرية الكرمة تبعد عن الأسكندرية ما يقرب من 140 كيلومترا.
جالس فى المقعد الأمامى إلى جوار الأسطى حسين يقود السيارة ويديه القويتين قابضتين على المقود وعيناه لا تحيدان عن الطريق. عاش طوال عشرات السنين سائقا للشاحنات، للتريلات، للتاكسيات ثم سائقا لسيارتى "الملاكي منذ سنة 1984. أمد ساقى واضعا قدمى المتورمتين على شلتة صغيرة خلعت عنهما الحذاء بصعوبة وأنا أسأل نفسى ترى هل سأستطيع أن أرتديه من جديد، فالسوائل ستتراكم فيهما طوال الطريق. أنسى قدمى وألتفت للطريق، للتخريب العمراني الذى أصاب الشاطئ الجميل. جبت أنحاء العالم ولم أر لونا للبحر مثل ذلك الذى يمتد أمام عيني تظهر منه مساحات لم تحجبها المبانى الحجرية. تحول الشاطىء إلى كتل متداخلة من الطوب والأسمنت المغطاة بالمصيص، المدهونة بألوان متنافرة وقبيحة. تحول إلى ما يسمونها بالقرى لها بوابات ضخمة كأنها تقود إلى قصور السلاطين، تزينها رسومات فنية لا أعرف من أى خيال عديم الإحساس الفنى إنبثقت لتحول جمال الطبيعة إلى كتل من المبانى، لا مساحةفيها للتنفس، فأتصور المصيفين أسرابا من النمل تخرج من أبواب ونوافذ بيوتها لتتجمع على مساحات الرمال المتبقية، أو لتلقى بنفسها فى بحر تسبح على سطحه علب الأسبريت والسفن آب وأكياس من النيلون ألقي بها بعد تفريغ محتوياتاها. أتامل التشكيلات الحجرية، والصروح الملونة والأشجار النادرة التى تتناثر داخل بعض القرى ذرا للرماد فى العيون أو كمحاولة يائسة لإضفاء مسحة من الجمال على هذا العالم الحجرى القبيح، عالم لا يؤمن بأن الإنسان إنسان له حس وعيون، وإنما مجرد مصدر للربح. خراب عمرانى صنعته طبقة رأسمالية يجرى الريع فى شرايينها، وقتل الجشع إدراكها بأن توفر للناس مساحات من الخضرة والأشجار والفضاء يعطى للحم وللعقل البشرى فسحة يستطيعان أن يتنفسان ويتحركا فيها، ألا تبنى لهم فقط جدرانا تتحول إلى نوع من السجن. تساءلت وأنا جالس أتطلع من النافذة ترى أين راحت الطبيعة التى وهبها لنا الرب وسط هذا السباق المجنون نحو الربح، وتلك المصادرة المستمرة للشواطىء لحساب فئات متمييرة لا يرتادها الناس الذين تطحنهم رحايا الفقر فى أكوخهم.
تذكرت قرية الكرمة الهادئة، المرسومة بحيث تفصل بينها حدائق فيها بعض الأشجار وزهور والياسمين والورود، قرية متواضعة أنشأتها الشركة الفرعونية منذ سنوات عندما كان يرأسها مهندس معمارى كانت له عيوبه، ورغباته فى الكسب، لكنه كان يتمتع ببعض من الذوق والحس.
بدأت أقرأ فى كتاب إسمه سحرة المسرح. المؤلف ناقد ألماني أسمه بيرند زوخر والكتاب عن أربعين من الممثلات والممثلين المسرحيين، عما كان يميز شخصياتهم وأداءهم المسرحى. يفتتح بيرند زوخر المقدمة التى كتبها بجملة تقول "إنها لحظة، لحظة واحدة يصبح بعدها كل هدا الكلام النظرى الذى قيل عن المسرح، قديمه وحديثه، كأنه لم يكن، لحظة أن يقف إنسان ما فوق خشبة المسرح، ويجذب بكل ما في إنسانيته من ثروة حية وجدان ومشاعر المشاهدين نحو فخ ربما يكون أداؤه قد نصبه لهم دون عناء، أو مشقة، لنرى كيف يحيل، بمجرد حركة بسيطة من يده أو نظرة أو ضحكة، مجموعات كاملة من المبادىء والأفكار إلى صندوق القمامة حيث محلها الطبيعى ليبدع بكل ما أوتى من قدرة على الإبداع، ويغترف كل شىء من معين ذاته الأصيلة الذى لا ينضب."
"في العمل التمثيلي يتوحد الفنان والعمل، وتلك هى معجزته الحقيقية، فالرسام يبدع لوحا، والشاعر يبدع شعرا، والموسيقى يبدع ألحانا، لكن الممثل يبدع ذاته، لكن هل يستطيع أحد أصلا وصف العمل الفنى؟ الإجابة هى لا. لم يستطع أحد ذلك من قبل لأن من بين جميع الأعمال يتميز العمل الفنى باحتوائه على عامل معنوى غير ملموس يغلفه، ويتغلغل فيه كما الروح في الجسد، ففي ذلك الشيء اللامحسوس الذى لا يمكن وزنه ولا قياسه ولا عكسه يكمن جوهر الفن، هناك حيث يكون الأثر بلا علة واضحة، وفى ذلك الشىء الذى لا يوصف حيث يكمن الفن الذى ينبغي علينا وصفه."
أثارت هذه الكلمات أحد المواجع التى تتملكنى بين الحين والآخر. عشت فى مجتمع زاخر بالأشياء، بالتجارب، بالناس الذين كان يمكن أن يشكلوا المادة الحية لمسرح عظيم. إنه حلم ضاع بين الأحلام الأخرى التى تتسلل إلى عقلى العجوز يتأمل الحياة أكثر مما يفعل فيها. لم أفكر طوال السنين التى عشتها أن أتجرأ وأكتب فى المسرح ولو عملا واحدا. والآن أجتر هذه الفكرة المستحيلة، لكن ترى عن ماذا أستطيع أن أكتب مسرحا؟ ربما ما أسمعه وأراه، وأحياه فى الحزب يصلح أن ينقل إلى خشبة المسرح فكثيرا ما يحدث وأنا جالس أتابع ما يدور فى اجتماع من الإجتماعات يبدو لى أننى لست سوى ممثل في مسرحية ساخرة أشارك فيها مع الموجودين فى غرفة من الغرف، فيما أقوله، وفيما أفعله وفيما يحدث لى أنا العضو فى هذا الحزب، ثم يتوارى الكاتب ليعود الرجل الذى أصبح جزءا من اليسار منذ أن كان شابا فى الكلية ليسأله ما هذا الذى يدور فى عقلك؟

الثلاثاء 21 يوليو 2015
عائد من الساحل، من البحر الأزرق، من الريح أختطف جرعات منه. يحاورني قلبي قائلا أرهقتني طوال السنين. أتركنى لحالى. أنت قاس تضربنى مثل حوذى يهبط بالكرباج على ظهر حصانه. ما زلت تريد أن تجرينى فى شوارع المدينة، أن تستنشق شواء الحاتى، وعطر الياسمين، أن تتمرد، وتكتب، وتجادل، أن تركض بى فى أحلامك وأنت عاجز عن المشى.

السبت 25 يوليو 2015
حضر محمود النفياوى صديقى الفلاح من القرية حلملا معه حصيلة بيع المخزن الذى قمت بإقامته فى عزبة الكوادى التابعة لقرية صالحجر منذ سنين طويلة. جاء معه إبنه إبراهيم شاب عريض الكتفين، طويل القامة ملامحه فيها وسامة أمه فى شبابها. تخرج من معهد صناعى قسم الخراطة لكنه مثل الملايين من الشباب لم يجد فرصة للعمل، وبعد أن فشل فى الإلتحاق بالقوات المسلحة كمتطوع إنتهى به المطاف عاملا فى مفرخة للدجاج يملكها عمه حسن. كان يرتدى حذاءا مطاطيا نقشت عليه زهور صغيرة ملونة، وتى شيرت كتب عليه "لاس فيجاس" بحروف سوداء كبيرة إشارة إلى المدينة المعروفة فى الولايات المتحدة المكرسة للمقامرة، والمتاجرة بالنساء والمخدرات والأموال ليقول لنا أن العولمة زحفت إلى قرية صالحجر وامتصتها فى سوقها، فهى شبكة عالمية سرطانية لم تترك أصغر بقعة فى العالم دون أن تغزوها لكن رغم آثارها المدمرة ربما يتسلل معها وعي جديد بوحدة العالم ومشاكله، وعى يكسر الحدود ويؤكد أهمية المعرفة والعلم فى تغيير المجتمعات مقابل الثمن الإنسانى الباهظ التى تدفعه الشعوب.
محمود النفياوي فلاح يشقى على فدانين ونصف من الأرض منذ شبابه وعنده أسرة من ستة بنات وخمسة أولاد. البنات قام بتعليمهن ثم سعى ليجد لهن أزواجا. زواج كل بنت منهن يكلفه من عشرة إلى خمسة عشرة جنيها مصاريف العرس والشبكة وإعداد جزء من بيت الزواج. الأولاد يسعى لتعليمهم فى بلد لم يعد يوجد فيه تعليم فالمدرسون فى الريف يقولون للطلبة والطالبات عودوا إلى بيوتكم واطلبوا من أهلكم توفير المبالغ اللازمة للدروس الخصوصية التى ستتلقونها مع غيركم. تعقد هذه الدروس فى منازل المدرسين تكلفتها خمسون أو مائة جنيه حسب المادة. بالإضافة يتم تسريب أسئلة الامتحانات للذين ينتظمون في تلقى الدروس الخصوصية. إيجار فدان الأرض الزراعية فى ناحيته أصبح الآن ستة آلاف من الجنيات فضلا عن إرتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، فشيكارة اليوريا مثلا تباع الآن فى السوق بمائة وعشرين جنيها. يجلس أمامى محمود النفياوى وسنه الآن 62 سنة يحكى، ويبتسم، ويضحك كالطفل البرىء فتلمع أسنانه فى وجهه المجعد القوى الملامح ثم يقول "الحمد لله".

الثلاثاء 28 يوليو 2015
بدأت فى قراءة كتاب عنوانه "الجيبتانا أسفار التكوين المصرية" قام بتجميع أجزائه الأصلية اللاهوتية الديموطيقى مانيتون السمنودى لكنه مكتوب حسب رواية الراهب أبيب التقادى. قام بالجمع والتحقيق والمراجعة التاريخية والصياغة العربية الستاذ على الألفى. كان يعيش ويعمل موجها للتعليم فى المنصورة وهناك نشأت بينه وبين الراهب أبيب النقادى علاقة صداقة وثيقة عمقتها أهتماماتهما الثقافية، فكل من الشخصيتتين فيها صفات ملفتة للنظر فى هذا المجال. على الألفى لم تمنعه نشأته وثقافته الإسلامية من أن يحقق هذا العمل المرتبط أشد الارتباط بمكانة قدماء المصريين وحضارتهم وتأثيرها العميق على التاريخ والثقافة فى مراحلهما الحضارية البعيدة كما أن العمل الذى قام به كان مصدره التصوص الديموطيقية والقبطية القديمة. الراهب أبيب النقادى كان رجلا يمتلك مكتبة ضخمة كانت تحتوى على مؤلفات لماركس وأنجلز وهيجل، وكانت وللشاعر بيرون و المؤلف المسرحى اعبقرى شكسبير،لأغلب الشعراء العرب والإنجليز الكلاسيكيين، لفرويد وبعض علماء النفس الذين واصلوا أبحاثه وللفلاسفة الإغريق، رجل عمل فى حرف ومهن مختلفة داخل وخارج المعابد التى إرتبط بها أثناء حياته الطويلة، وتنقل فى كل أنحاء مصر شمالها وجنوبها، شرقها وغربها وسافر إلى سوريا وبعض بلاد البلقان قبل أن تنتهى حياته بعد أن جاوز سن الأربعة والتسعين.
لم أكمل هذا الكتاب بعد لكن المائة صفحة التي قرأتها حتى الآن جعلتنى أزداد إدراكا وفهما لقيمة الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها فى التاريخ. كانت أول حضارة أدخلت فى حياة البشر القيم والقواعد الأخلاقية، ونقلت فكر الإنسان من التوحش البدائى الذى لا يعنيه سوى الحفاظ على حياته، إلى محيط إجتماعى وثقافى يضع فى أعتباره علاقاته وتعاملاته مع الأخرين. هذا بالإضافة إلى المعارف العلمية والتكنولوجية فى مجالات كثيرة مثل الزراعة والرى واستصلاح الأراضى، وإنشاء الطرق ووسائل التنقل، والبناء، والمعمار والفنون والكتابة، والهندسة والرياضة.
ذكرنى هذا الكتاب بمؤلف قرأته منذ سنين ولم أكمله كان اسمه "بلاك أثينا" أى أثينا السوداء. كان عن الحضارة المصرية القديمة وسعى فيه مؤلفه إلى التدليل بمختلف الوسائل على أن الحضارة المصرية القديمة هى أصل الحضارات جميعا، وأن الحضارة اليونانية بنيت عليها، وقامت بتطويرها بوسائل مختلفة أبرز ما فيها كان الفصل بين الدينى والدنيوى مما أخرج الفكر اليونانى من الحدود الدينية الفرعونية الجامدة، وأعطاه مرونة ورحابة وحركة تتجلى فى التماثيل الإغريقية كانت قاعدة التطور الذى حققه. كانت عند قدماء المصريين ميزة فى فكرهم إلى جانب ميزات أخرى هو اعتبارهم الدنيوي سابق على الديني, أى أن الدنيا نشأت قبل نشأة ما هو دينى فقد آمنوا أنه فى البداية سكن الآلهة الأرض وأنجبوا فيها أبناءهم وأحفادهم لكن فيما بعد صعدوا إلى السماء تاركين أحفادهم على الأرض، وأصبحوا المسيطرين على الكون وخالقيه، كما صعد معهم معاونوهم ليديروا الأمور عن طريقهم، وهكذا نشأ الملائكة المجنحين.
الخميس 30 يوليو 2015
أصبحت أمل تذكرني بأشياء كثيرة في حياتي، بل وفى كتاباتي نسيتها تماما. ذكرتنى مثلا أن جمال بدوى رئيس تحرير جريدة الوفد لمدة سنين وأحد أقطاب حزب الوفد البارزين اتصل بي تليفونياً في أحد الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر عام 2007 وقال لي "يا دكتور شريف أريد أن أقول لك أننى أكن لك إحتراما خاصا، وتقديرا كبيرا لحياتك ولمواقفك." فوجئت بهذه المكالمة وبما قاله فيها فلم تكن بينى وبينه أدنى علاقة، ولم أذكر حتى أننى إلتقيت به طوال حياتى. كانت مفاجأة زادت منها وفاته بعد هذه المكالمة بثلاثة أيام، وحتى اليوم ليس لدى تفسير لهذه الحادثة.
ذكرتنى أيضا أنني فى إحدى كتاباتى تحدثت عن طائر كان يصعد إلى جبل عالى عندما يصل إلى سن كبير ويشعر بأنه هرم وضعفت قواه يقوم بكسر منقاره فى حجر الصخر فيتكون له منقار بديل.
أسعد عندما تذكرنى بمثل هذه الأشياء لكن فى الوقت نقسه يصيبنى احساس بالقلق. فالذاكرة هى كنز الكتابة، هى خزين التجربة، وثروة الحياة فعندما تضعف عند الإنسان يفقد هذا الخزين الذى تنطلق منه كتاباته، هذا الخزين من الخبرة والأحداث الذى هو الأرض الخصبة ا يغرس فيها ما هو جديد، ما يدل على الأستمرار فى العطاء للحياة. أشعر كأن عقلى أصبح مسطحا فاقد لأعماقه.
اليوم جاءتنى شابة سنها ثلاثين سنة من مدينة الأقصر. تقوم بدراسة تأريخ الحركة الشيوعية المصرية من سنة 1921 حتى سنة 1952 لنيل الماجستتير. كانت محجبة وصائمة الستة أيام البيض التى تأتى بعد إنتهاء شهر رمضان وهذا رغم الحر الشديد السائد هذه ألأيام. قامت بتدريس تاريخ الفراعنة وبالعمل فى السياحة. وجدتها متفتحة على غير ما يوحى به مظهرها.
هل للكتابات قيمة فى ذاته ولذلك محنتي هي اللحظات التي أتوقف فيها عنالكتابة أنا العجوز الرابض فى بيته يتأمل الجدران، العاجز عن القراءة إلا بعدسة مكبرة ترهق عينيه ويتصدع معها دماغه فأقول لنفسي: فترات التوقف عن العمل هى فترات للتأمل، لصقل الأقكار والأدوات. لا بد من تأمل ما عشته فى الماضى، وماتستطيع أن تعيشه ، من تعميق إحساسك البفنى والعاطفى لأنه منبع كل عمل فكرى وإبداعى قد تقوم به. إنها فترات يجب ان تكرس لتطوير قدراتك تتفاعل فيها مع الآخرين. التفاعل مع الآخرين هو الفعل والإعداد لما ستقدم عليه .التفاعل نع الآخرين هو الذى يعنى أنك ما زلت حيا، أن لوجودك قيمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.