من العلامات الدالة علي أن الأزهر الشريف قد افتتح عهدا جديدا في مسيرته التاريخية التي جاوزت الألف عام أن الوثيقة التي أصدرها شيخه فضيلة الإمام الأكبر يوم20 يونيو2011 قد تلقاها أغلب المصريين بالقبول. ولهذا القبول في رأينا سببان لا يفترقان: أولهما لأنها صدرت من الأزهر الشريف وباسمه, وثانيهما لأن فلسفتها العامة توافقية وسطية تتطابق مع أهم سمة من سمات الشخصية المصرية. هذان السببان جعلا الوثيقة نقطة لقاء جاذبة للقوي الرئيسية في الساحة المصرية, علي النحو الذي ظهر واضحا في الاجتماع الذي عقده فضيلة الإمام الأكبر يوم الأربعاء17 من رمضان المبارك( الموافق17 أغسطس الماضي) في رحاب الأزهر الشريف مع عدد كبير من ممثلي الأحزاب الرئيسية, وفي مقدمتها أحزاب: الحرية والعدالة( الإخوان) والوفد( الليبرالي) والنور( السلفي) والجبهة الديموقراطية( الليبرالي), وعدد آخر من المفكرين وممثلي الجماعات والتيارات السياسية: منهم الدكتور محمد سليم العوا, والشيخ حسن الشافعي, والشيخ المختار المهدي, والشيخ عبد المنعم الشحات, والدكتور كمال الجنزوري, والدكتور أسامة الغزالي حرب, كلهم اجتمعوا وأعلنوا موافقتهم علي الوثيقة. مع بعض التحفظات القليلة والوجيهة في الوقت نفسه من بعض هذه الأطراف, وكان مشهد الاجتماع نادرا ورائعا في رحاب الأزهر الشريف. صدور الوثيقة الأزهرية علي النحو الذي صدرت به, وفي مثل هذه الظروف التي تمر بها مصر يعني أن الأزهر العريق قد استرد روحه التي أزهقها الاستبداد السياسي لزمن طويل, ويعني أيضا أن الأزهر بدأ يتأهب ليستعيد مكانته ويرتفع بها كي تتكافأ مع إمكانياته الحضارية والعلمية والفكرية والتاريخية ليس في مصر وحدها وإنما في العالم الإسلامي كله. لنتذكر هنا أن أحد وجوه مشكلة الأزهر في علاقته مع السلطة الاستبدادية السابقة هو أن تلك السلطة حرصت باستمرار علي أن تضعه في مكانة أقل بكثير من إمكانياته, وصادرت حقه الأصيل في المشاركة في قضايا المجال العام, وسلبت منه الجانب الأكبر من حريته في التعبير وإبداء الرأي, وضيقت عليه بوسائل شتي ليس هنا مجال الحديث عنها. كي تعزله عن محيطه الاجتماعي, وكي تعمق الفجوة بينه وبين النخب الفكرية وصناع القرار في كل شأن عام من شئون المجتمع المصري والأمة الإسلامية. وباختصار يمكن أن نقول إن الأزهر في ظل السلطة المستبدة البائدة كان قد تم تغييبه عن دوره المنوط به, وهو اليوم يتأهب لاسترداد ما سلب منه ليعود الي وضعه اللائق به. بعض الأحزاب الناشئة, وبعض التجمعات الصغيرة, وشخصيات هنا وهناك, اعترضت علي قيام الأزهر الشريف بإصدار وثيقة تتناول مستقبل الأوضاع في مصر, وتضع بعض الملامح الأساسية لما يجب أن تكون عليه علاقة المجتمع بالدولة, بما في ذلك بعض المبادئ الاسترشادية لدستور مصر الجديد. والحجة الرئيسية لهؤلاء وأولئك هي أن الوثيقة عمل سياسي, وأن في هذا خلطا بين الوظيفة الدعوية والوظيفة السياسية. بزعمهم. وذهب أولئك المعترضون أيضا الي أن مثل هذا العمل ليس من اختصاص الأزهر الشريف, وأن له اختصاصات أخري من قبيل اصلاح أو تطوير الخطاب الديني ولم شمل القوي الإسلامية مثل السلفية والصوفية. لكن القول بأن الوثيقة عمل سياسي لا يجوز للأزهر القيام به فيه دليل علي أن أصحاب هذا القول لا يزالون في مرحلة الطفولة السياسية, ولهذا فهم لا يستطيعون إدراك الفرق بين العمل السياسي والفكر السياسي وينظرون اليهما علي أنهما مترادفان يحل أحدهما محل الآخر بمبناه ومعناه. والحقيقة أنهما أمران مختلفان تمام الاختلاف. الفكر السياسي هو نشاط عقلي وذهني قائم علي الاجتهاد والتدبر في شأن أو أكثر من شئون المجال العام الذي يتصل بمصالح عموم المواطنين في حاضرهم ومستقبلهم. ذلك هو المعني الذي استقر عبر الزمن في الفقه السياسي الإسلامي الذي وضع أصوله علماء الأمة وليس علماء السلطان, وعليه فإن مبادرة الأزهر لإصدار مثل هذه الوثيقة أمر يقع ضمن اختصاصه الأصيل, باعتباره مؤسسة العلم والاجتهاد الذي لا ينازعه في ذلك منازع. ولئن كان قد حرم من هذا الحق في فترة سابقة, أو كان قصر في أداء واجبه, فليس معني ذلك سقوط هذا الحق. بل يظل مطالبا بأداء ما عليه واستخدام حقه في الاجتهاد, وعليه أن يعلن اجتهاده, وينور الرأي العام بما توصل اليه, وليس للأزهر في ذلك سلطة غير عادية تمكنه من فرض اجتهاده دون مناقشة, بل يظل ما يصدر عنه اجتهادا قابلا للمناقشة ممن يقدرون عليها ويكونون مؤهلين لها, والفيصل هو قوة الحجة والبرهان, ومراعاة المصلحة العامة لا أكثر من ذلك ولا أقل. أما العمل السياسي فهو ممارسة افعال, أو القيام بأعمال واتخاذ مواقف تهدف. ضمن ما تهدف الي اقتسام السلطة مع أطراف أخري, وهذا هو بالضبط ما يقحم الأزهر في معترك الصراعات بين القوي والتيارات السياسية والحزبية. وهذا هو ما يحول الأزهر الي خصم سياسي لهذه القوة أو تلك, وهذا ما لم يقل به أحد, ولا يوافق عليه أحد لا من داخل الأزهر ولا من خارجه, وهذا ايضا ما لا تمت اليه وثيقة الأزهر بأدني صلة, اذ هي اجتهاد فكري سياسي كما أسلفنا. والقول بأن الأزهر خلط بوثيقته بين الوظيفة الدعوية والوظيفة السياسية هو استمرار للخلط في إدراك الفرق بين الفكر السياسي من جهة, و العمل السياسي من جهة أخري, والذين يرون تجريد الأزهر من حقه في الاجتهاد السياسي في الشئون العامة يسعون. بقصد أو دون قصد. لعلمنته وعزله بعيدا عن معترك الحياة السياسية, وسلبه حقه وهويته في آن واحد. هناك سببان إضافيان يجعلان وثيقة الأزهر تتفوق من حيث اهميتها وكفاءتها الفكرية والسياسية علي جميع الوثائق الأخري التي صدرت بشأن مستقبل مصر فيما بعد ثورة25 يناير. السبب الأول هو أن هذه الوثيقة التي صدرت باسم الأزهر الشريف هي حصيلة عمل جماعي حيث تم وضعها بمشاركة فاعلة من القوي والتيارات الفكرية المتنوعة في مصر, ولم ينفرد الأزهر الشريف بصوغها, بل فضل أن يدعو عددا من رموز الفكر والأدب والسياسة والعلماء متنوعي التخصصات كي يتشاوروا للوصول الي أفضل الصيغ وأكثرها كفاءة في الاستجابة لآمال وتطلعات المصريين في المرحلة المقبلة. السبب الثاني هو أن وثيقة الأزهر صيغت كما قلنا بفلسفة توافقية وسطية, وتجلي ذلك في أنها كشفت عن القواسم المشتركة بين مختلف التيارات والقوي الفكرية والسياسية الرئيسية علي الساحة المصرية. وهذا ما يشير اليه نص الوثيقة بوضوح. وهذا ما يجعلنا نقول إنها قد نجحت في الإمساك بأصول القضية التي تصدت لها, ونجحت أيضا في أن تزيح للخلف نقاط الاختلاف والفرعيات التي عادة ما تستعصي علي التوافق. وبفضل هذه النزعة التوافقية الوسطية المبنية علي الأصول لا الفروع, فإن الوثيقة من شأنها أن تسهم في بناء ما يسميه الفقيه الكبير المستشار طارق البشري التيار الرئيسي. ففي رأيه أن هذا التيار يشيده التفاهم حول القضايا المركزية والتحديات الكبري التي يواجهها المجتمع بعيدا عن التنازع الذي عادة ما لا ينشأ إلا من سوء التفاهم والانشغال بالفرعيات والغرق في الجزئيات. وثيقة الأزهر من حيث دلالتها العامة ووظيفتها في لحظات التحول الراهنة التي تمر بها مصر جاءت لتعبر عن ضمير الأمة حسب رأي الدكتور سليم العوا. ولا يعني تأييدنا لها أنها جاءت خالية من كل عيب أو نقص, فهي كأي عمل بشري غير منزهة عن شئ من ذلك. ولكنها مقارنة بغيرها من الوثائق المماثلة تظل هي الأكثر اتزانا ووسطية, والأكثر اقترابا من وجدان المصريين. وتقديرنا أنه اذا تهيأت لها الظروف الملائمة لأداء دورها التوافقي المرغوب فيه دوما علي الساحة المصرية, فإن هذه الوثيقة تكون قد تحولت الي نص فكري تاريخي, وكل نص له هذا الوصف, هو نصر اجتماعي يصب في صالح الوطن ويضع لبنة قوية تبني مستقبلا أفضل للمصريين ولمصر. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم