هل لأن التاريخ يعيد أحداثه وأوراقه لجأت الكاتبة اللبنانية رجاء نعمة إلي شطآنه وروافده لتصبح مسرحا لأحداث روايتها الأخيرة( ورد شاه) الصادرة عن روايات الهلال؟ وبعيدا عن أعمالها الروائية السابقة( حرير صاخب)( مريم النور)( كانت المدن ملونة) التي تحكي جميعها تجارب معاصرة عصفت بلبنان الستينات والسبعينات والثمانينات تتخللها قصص الحب الرومانسية, تلتقط هنا الكاتبة طرف خيط مهم وحيوي, حيث تناقش قضايا التنوير والنهضة التي خاب أملها ولاقت هزيمة نكراء خلال بدايات القرن العشرين, فتعرض لقصة( ورد شاه) بكل ملابساتها وانعكاساتها وكفاحها التي تحملها معها في بيروت.. ومصر وفي تركيا العثمانية.. تقول لنا: (ورد شاه) امرأة تخرج عن السياق القديم.. تثور للنساء.. لهؤلاء النسوة المتشحات بالأسود.. اللائي لا يدرسن ولا يعملن.. ويجلسن في البيت.. هي بنت مدرسة.. كاشفة.. ترفض ابن خالها, ذلك العريس الذي جاء به أهلها.. عريس الصالونات والمجتمع المخملي.. وتقع في حب أستاذها الذي يمثل في عينيها خط الحداثة الجديد.. لقد تعلمت ودرست أمهات الكتب وصارت مثقفة.. فهي نموذج ثوري ورومانسي في آن واحد.. هي امرأة استثنائية لكنها نتاج التاريخ.. حقا تلقي هزيمة نكراء في حياتها.. تتعرض للقتل.. وينتهي بها الأمر في مصحة بدير راهبات.. لكنها تثبت لنا أنها لا تتشدق فقط بالكلمات والشعارات.. بل تضحي بحياتها بأسرها من أجل مبادئها وأفكارها.. * الكتابة التاريخية منحتني نوعا من التحرر من تلك القيود التي يمكن أن تكبل الروائي وهو يعرض للمرحلة الراهنة.. فالكتابة التاريخية كريمة حقا, بل وسمحة.. والرواية تحكي هنا عن الحاضر بلسان الماضي.. فهي تكرار بصورة ما لتاريخ لبنان وربما أيضا لتجربة الحداثة.. وهناك كذلك قضية الصراع الطائفي التي طرحتها عبر السطور بحرية وإسهاب.. * وقع اختياري علي بداية القرن العشرين تحديدا ليكون مسرحا لاحداث الرواية, ربما لان هذه الحقبة تعد مفصلية.. فهي بمثابة منعطف تاريخي شديد الثراء.. مفصل زمني( مغر) إذا جاز لنا التعبير.. قضية التنوير التي طرحت في القرن التاسع عشر, ها هو القرن العشرون يجني ثمارها.. هناك أيضا أحداث الحرب العالمية الأولي وتلك السنوات المأساوية التي عانت منها منطقتنا العربية.. هناك كذلك النظام العثماني( الرجل المريض) الذي يرقد مستسلما بعد هزيمته سياسيا وعسكريا.. حالة من الترقب تشمل الجميع.. الكل ينتظر.. ويحلم.. وربما يفرط في الحلم.. في هذه الأجواء المتضاربة والثرية تدور أحداث الرواية.. * نعم الرواية العربية في حالة ازدهار النقد أيضا تعيش حالة انتعاش.. يمكننا القول إن النقاد الأوائل بات لهم أولاد وأحفاد.. وإذا كانت الستينيات هي خلاصة تجربة الأربعينيات والخمسينيات في حقل الرواية, حيث بدأت في تلك السنوات تحديدا تتصاعد نبرة الاحتجاج والاعتراض والتظلم.. وكانت حينها فنية الرواية ضعيفة, ونبرة الاحتجاج قوية.. ففي السبعينيات والثمانينيات حدث نوع من تنمية الرواية.. أي الاهتمام بالسرد والشخصيات واللغة الفنية, أقصد المجال الابداعي بوجه عام.. والآن يحدث نوع من الردة.. تستوقفني تحديدا تجربة كاتبات من الخليج.. أتساءل: ماذا يردن؟ هل نعيد مرة ثانية صرخة الاحتجاج؟ ربما بطريقة أخري.. أكثر جرأة.. وأكثر ابتذالا..؟( كسر التابوه),( كشف المستور) التحدث عن( المسكوت عنه) عن( المحظور).. ازدهرت بشدة روايات( صرخات الجسد).. وروايات( الرغبات).. هي ظاهرة لافتة.. لكنها أيضا برأيي ظاهرة مرفوضة.. فنيا لا تساوي شيئا.. وروائيا.. تبدو ضعيفة.. كل همها أن تجعل الخاص عاما.. نقاد خليجيون تحمسوا كثيرا لهذه التجارب الروائية.. ربما لأنها تضرب المحظور وتتحدث بجرأة.. ولكن هل هذا كاف؟! هناك مع ذلك علي صعيد آخر تجارب روائية جادة وراسخة تؤكد معها تأصل فن الرواية في المجال الابداعي بقوة.. * الأدب صار اليوم رائجا.. حركة النشر في حالة انتعاش. هناك إنتاج غزير.. هذه حقيقة واضحة, ومن يمكنه أن ينكر ذلك؟ وربما أيضا هذه ظاهرة طيبة وايجابية, لكنها في المقابل ولدت معها مشكلة كبري.. إذ صار من الصعب أن نفرق بين الغث والسمين.. اختلطت الكتابات الجيدة مع الرديئة.. وغزارة الانتاج هذه أفرزت معها نوعية جديدة من القراء.. ومعها ازدهرت ولمعت أسماء لكتاب وكاتبات.. وأصبحوا نجوما ونجمات في وقت قياسي(!). كان النشر قبلا مقصورا علي الموهوبين الآن الباب أصبح مفتوحا علي مصراعيه للجميع.. لأنصاف الموهوبين والمبتدئين, وأصحاب الأقلام الفضائحية.. وفي خضم هذا كله قد تضيع او تتوه الأقلام الجادة والروايات الرصينة.. كثيرا ما أتساءل: كيف يمكننا حقا غربلة كل هذا الانتاج الغزير؟! * لست يائسة.. لكنني أشعر بالقلق.. والقلق يعد غذاء للمبدعين أوليس كذلك؟ في يقيني أن الرواية ستزدهر أكثر.. وستحقق مزيدا من النجاحات.. لكن الأمر يحتاج إلي معاناة.. يجب ألانستسلم أبدا.. فالرواية مجالها خصب.. ملعبها مفتوح ورحب ومترام.. ولها خصوصية مؤثرة.. ويمكن للكاتب أن يكتب في أي مكان وبأي وسيلة علي أوراق دفترة. او أمام شاشات الكمبيوتر.. لا يهم في الحقيقة.. والنشر صار متاحا.. بعكس المجالات الفنية الأخري.. السينما.. المسرح.. الموسيقي.. حيث تبدو شديدة التكلفة.. ذات عناصر كثيرة متداخلة مع بعضها البعض ومن ثم من الصعب التحكم فيها.. الرواية تملك في طياتها وسطورها زادا هائلا من الخيال.. فهو حصن من حصون دفاعها القوية, ويمكنها أن تواجه الأزمات والمحن, وتصبح أكثر تأثيرا وفاعلية من السياسة.. ومن هنا تحديدا تكمن قوتها.. * الظاهرة الروائية التي تحدثت عنها قبلا, وأعني بها ظاهرة روايات الجسد, تعكس معها في الحقيقة حال زمننا.. زمن لاهث.. الكل يركض وراء المكسب السريع.. لا نكاد نتوقف امام الأشياء العميقة الجادة.. ألا يطلقون عليه زمن الوجبات السريعة؟! ولكن في المقابل كيف يمكننا أن نغمض عيوننا عن ذلك الانتاج الروائي الجاد الذي نقرأ بعضا منه في مصر ولبنان وشمال إفريقيا والعراق والسعودية؟ نعم قد لا تنتشر روايتي.. وقد لا تحقق مبيعات هائلة مثلما تحققه روايات الجسد, لكنني لست نادمة.. وهناك مثلي كثيرون.. لا يستسلمون لهذه الظاهرة ولا يسيرون خلفها.. [email protected]